على البطاح المطلة على (يثرب)، وبين تلك الشعاب البيض التي تعج بالرمال، وتنام في أحضان الجبال، تسكن قبيلتان جمعت بينهما وشائج القربى وأواصر النسب، وفرقت بينهما شريعة الصحراء، والجهالة الجهلاء، هما (الأوس والخزرج) اللتان استفحل العداء بينهما، وأكل قلوب زعمائهما وأودى بهما إلى حروب طاحنة ومعارك دامية، أرّثت بينهما نوازع الشر، والتهمت الشباب الغض، حتى أصبحوا لا يفترقون من وقعة حتى تجمع بينهما أخرى، وما يجف الدم من معركة حتى يسيل ثانية ويفور:
إذا افترقوا من وقعة جمعتهم ... دماء لأخرى ما يطل تجيعها
وآخر ما تمخضت عنه هذه الأحداث النكراء، والتراث الدكناء حرب كبرى لم يشهد العرب لها مثيلاً، أورت الجزيرة بزناد الفتنة، وشطرت العرب أشطاراً متناحرة، وجعلتهم أحزاباً متنافرة، تلك هي حرب (بُعاث) التي تجندل في حومتها الفرسان وسارت بحديثها الركبان، والتي كان للشعراء فيها معارك أخرى ليست الألسنة فيها بأقل إيلاماً من السيوف، ولا القصائد بأدنى تأثيراً من السهام؛ وإذا كان السيف المهنّد يطيح بالرأس، والسهم المرّيش يزهق النفس، فإن اللسان العضب يخدش العرض الكريم بالمذمة، والقريض القوي يطعن الأنف الحمى بالمهانة. . .
ولما أن ظهر في الجزيرة (محمد) صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الله وشرعة الحق، ويدعو العرب إلى دين الإخاء والمساواة، ومبدأ العدالة والنور، استشار العربُ أحبار اليهود