كم لهذه المدنية من جنايات منكرة على الإنسان، فلقد شاءت في كل ما تضعه أن تعطيه صور الطبيعة مشاهد ممسوخة وأن تعطيه كتاب الكائنات سطوراً مبهمة.
لقد كان الإنسان في العهد الأول يوم كان يزحف إلى رحلاته على آلات تسعى كالسلحفاة أكثر اتصالاً بالطبيعة، لأنه يقف إزاءها وجهاً لوجه، يتأمل جمالها وجلالها ويتحمل مشاقها ويرى في تحمله لذة الانتصار. فالراحل رحلة قصيرة يتألب حوله من يهتف له ويعجب به ويسأله أن يحدثه عن عجائب رحلته لأنه يراها رحلة حُبلى بالغرائب. وترى صاحبها كلما تحدث عن رحلته تحدث برغبة وحماس، يصور تلك المشاهد ويحبب لسامعه لقيام بمثل رحلته حتى يطلع على جمال لا يغني الكلام عنه.
جمال هذه الرحلات طغى عليه جيل السرعة فلم يُبق لتلك المشاهد روعة، ولم يدع للرحلات البطيئة معنى. . . فالسيارة والقطار والطيارة أعداء هذه الرحلات البطيئة لأنها تجعل من مشاهد الطبيعة الغزيرة المعاني صوراً وأخيلة سينمائية لا ينفذ الناظر إلى دقائقها وائتلاف صورها. فالراحل من بيروت إلى دمشق في العهد السابق على عجلة كان يلبث ثلاثة أيام قد يقاسي فيها بعض الشدائد، ولكنه ينال مقابل هذا من جمال الطبيعة والتأمل في خفاياها ما لا ينسى روعتها أيام عمره، فهو يكاد يعي مصوراً جغرافياً بالطريق وقرى الطريق، وهو لا يكاد ينسى المواطن التي بات فيها لياليه. أما اليوم فهو لا يلبث في رحلته إلا ساعتين يقطعهما كلحظتين في قلب سيارة تحجب عنه كل شيء ولا يحس لذة في السيارة إلا لذة السرعة، وبهذا انطوت عنه آفاق وتوارت عنه مشاهد كثيرة. لقد ظفر إنسان اليوم بالسرعة وأصبح يقلب الأرض قطراً قطراً ولا يعصيه منها شيء، ولكنه يعود من أقطارها كأن لم ينظر شيئاً، لأن هذه السرعة قد محت من ذاكرته أكثر المشاهد، ربح هذه السرعة وخسر هذا الجمال المتغلغل في الأشياء والأكوان، وسرى فوق الأرض كمشاهد غريب عنها لا يتصل بها ولا يعي من مشاهدها شيئاً. وليته خسر من مشاهدها روعتها! ولكنه خسر التأمل الذي يترك أكبر الأثر في النفس. فكم درس كان يتولد من مشهد! وكم قصيدة تنشأ من تأمل في أعماق الطبيعة! أضاعت السرعة كل هذا وزادت في فصل