للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الإنسان عن الطبيعة الأمر الذي ضج له بعض الفلاسفة وخشوا على الإنسان أن يزداد انجذابه بالمادة، والمادة قاتلة فيه كل روح وضمير. وبهذا تثبت الإنسانية في أجيالها الحاضرة أنها أصبحت طائعة خاضعة للمادة، وأنها لا يستفيق فيها نداء الروح إلا حين تفشل مادتها ويضعف تعلقها بها!

أجد السائح على الآلة البطيئة يحدثني عن جمال مشاهد غاب جمالها في نفسه وأثر في قلبه وربما غير اتصاله بها وجوها كثيرة من حياته، وهذا سر كل رحلة وغايتها. وأجد السائح على الآلة السريعة فأجده سيد رحلته. انتهى منه كما بدأ بها. . . لم يضف إلى خزانة نفسه من هذه الرحلة شيئاً إلا أسماء رآها على المصور كما أراها إذا أردتُ. وما عسى تجديني رحلة طويلة أطوي الأرض من قطبها إلى قطبها وأجمع بيدي كل آفاقها، تدور بي آلة تسير كالجن تريني السماء والأرض طائرتين، أو أرى الأرض من السماء كخيال لا يتبدل ما فيه إلا قليلاً. إني لأوثر على مثل هذه الرحلة التي اختلط رأسها بذنبها رحلة قصيرة بطيئة تتصل نفسي فيها بالأرض وتسمع نداءها وتدرك جمالها وتتأمل جلالها، وإذا انتهيت من رحلتي أحسستُ شيئاً جديداً في نفسي! أليس في تبدل كل مشهد وحي جديد يهبط على نفسي؟ أليس في كل طود شامخ أجاهد النفس في اقتحامه انتصار قوي يشجع نفسي على المثابرة؟ أليس في انتصاري على كل شدة وكل نكبة ومجاهدتي بنفسي في اقتحام المخاطر ما يعينني على اقتحام مخاطر الحياة التي تشبه من وجوه عديدة هذه المخاطر؟ وكيف تريد من الغني الذي ينشأ في النعيم والنعومة أن يقوى على مجابهة الحياة حين تقابله مصاعبها؟

إن في مثل هذه الرحلات نوعاً من المقاومة - كم يفهمه الكشافون - يعين على احتمال المصاعب، وفيه نوع آخر يجب أن نسبق إلى تفهمه هو محادثة الطبيعة فماً لفم، وعناقها صدراً لصدر، والتغلغل في خفايا جمالها الرائع، وفي هذا ما يجعل قلوبنا تطفح رضاً بالحياة ونفوسنا تحبها وتتمتع بها.

حقاً لقد كسبوا كثيراً من السرعة في رحلاتهم، وكثيراً من الراحة في هذه السرعة، وكثيراً من الرحلات في هذا العصر، ولكنهم فقدوا أجمل شيء كانوا يأخذونه من الطبيعة، فقدوا الأساليب التي كانت تدخل بها الطبيعة إلى أنفسهم، والأساليب التي كانوا بها يدخلون إلى نفس الطبيعة. . . وقد أخطئوا إذ حسبوا أن قيمة الرحلة بأبعادها ومسافاتها وتعدد مشاهدها،

<<  <  ج:
ص:  >  >>