يردد بعض الناس هنا وهناك أن الشرق غير الغرب، وأنه لا سبيل لالتقائهما، ونحن في الحق لا نعرف قولا أكذب من هذا وبخاصة في مجال الثقافة، حيث يشهد التاريخ أن التيارات الفكرية لم ينقطع لها مدد بين شطري العالم، وإن كان من الصحيح أن لكل من هذين الشطرين خصائص مميزة إلى جانب ما يجتمعان فيه حقائق إنسانية عامة
والناظر في تاريخ الحضارات يلاحظ أنها لم تتوقف قط عن التأثر ببعضها البعض، ولئن كان من الثابت أن الشرق قد كان مهد الحضارات؛ فإن الغرب لم يلبث أن أخذها عنه واتجه بها وجهات جديدة فنشر في الروح مبادئ العقل واتجه بالنظر إلى العمل، وبذلك وسع من أسس الحياة الروحية كما مكن للإنسان من استخدام المادة والسيطرة عليها
ولقد سبق للعرب أن اتصلوا بالحضارة الإغريقية القديمة، وأخذوا عن تلك الحضارة ما أمكن أخذه مما يصح عند العقول كافة كأصول التفكير الرياضي والفلسفي، وأما ما يتصل من تلك الحضارة بمقومات الحياة الاجتماعية والعاطفية، وهو ما تتميز به الحضارات، فلم يستطيعوا بداهة فهمه ولا قبوله أو نقله، ومن هنا لم يترجموا إلى لغتهم شيئاً من شعر الإغريق وإن كانوا على العكس من ذلك قد ترجموا من أشعار الفرس كالشاهنامه وغيرها. وربما كان ذلك لأن حياة الفرس التي يصورها ذلك الشعر كانت أقرب إلى حياة العرب من حياة الإغريق، ثم إن الدين قد لعب في هذه المفارقة دورا حاسماً، فالفردوسي شاعر مسلم وهوميروس وثني
ولقد تجردت نفس الظاهرة ببلادنا منذ أن ننقل عن أوربا في أوائل القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، فالشعر بل والنثر الأدبي بمعناه الضيق كان آخر ما أخذنا في نقله، بينما اتجهت جهود بعثات محمد علي وخريجو مدرسة الألسن إلى نقل العلوم أولاً، ولهذا الاتجاه سبب مزدوج، فوالي مصر العظيم محمد علي كان رجلا ذا طموح عملي، ولقد رأى الأوروبيين يسيطرون بعلومهم التي تمكنهم من القوة المادية، ولهذا أرسل معظم أعضاء بعثاته للتخصص في تلك العلوم كالهندسة والكيمياء والطب وصناعة السفن والفنون الحربية المختلفة، والسبب الثاني هو ما سبق أن أشرنا إليه من بعد الكتابات الأدبية شعراً ونثراً عن