كان أمس، من أيام الشتاء المشهودة: ريح صِرّ، وليل قَرّ، حتى خَصِرَت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلّى (أمشير) بأجلى ما وسم به من هَوَج ورَعَن. حتى لو كان طفلاً لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه االتكاليف.
ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.
غادرت حجرتي إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فاخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيراً في موضوع للرسالة.
شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة اسجلها للقراء:
لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعاً طريفاً؟
إنه مووضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس، ولا بمساعد مدرس - إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنِّيّة والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزؤ والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار.
ليس ذلك بصحيح، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الاشياء فكرة بديعة، أو رأياً طريفاً. لقد قال تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها، والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه، فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الايلام، بنفسها وبمنتجاتها، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكاً، يسيل لعاب الانسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيّله وقد أنضجه طاه ماهر.
وضب الله الذباب مثلا فقال تعالى (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباّ ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعُفَ الطالب والمطلوب) وأين