للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ذكريات لندن]

حرية. . .!

للأستاذ عمر الدسوقي

مضى الشتاء متثاقلاً متلكئاً بعد أن أطلق لشياطينه العنان، تعبث بالأرض عبث الوليد بخذروفه، وتجوس خلال الديار بوجوه مقطعة مكفهرة، تتواري منها ينابيع الجمال والرحمة هلعاً وفرقاً؛ وتلفح أنفاسها الأوراق النضرة فتذوي، وأوراق الدوح فتساقط عصفاً مأكولاً؛ وتزفر زفرات مَرّتْ على زمهرير سقر، حتى تنتفض لها الدنيا، وتنكمش في أبرادها وتسري في أوصالها رعدة الفر، وقشعريرة الحمى البرود، أو ترسلها ضباباً أسود بشعاً، يملأ فجاج الأرض، تطرف منه العيون وتدمع، وتغص به الحلوق وتشرق، وتسيل الأنوف وتنتفخ، وتسعل الصدور وتنقبض؛ يحجب الشمس، ويعطل الحياة، ويحيل السبل سراديب مدجنة يرتطم فيها الأحياء بالجمادات وهم يتحسسون طريقهم، وتتراءى فيها الجمادات مردة طليت بالقار، أو اشتملت بمسوح نسجت من أديم الليل البهيم؛ أو ترسلها ريحاً زفزفاً مزمجرة، تهز الأرض هزّاً عنيفاً، وتزأر زئيراً منكراً كئيباً، يصم الآذان، ويرجف الأفئدة. . .

حتى إذا خالت الشياطين أن الدنيا قد هلكت رعباً، وحالت جثة هامدة باردة، وأشلاء ممزقة مبعثرة، دفعت بالثلج كفناً أبيض يتراكم كسفاً، ويجلل الأرض بقطع بيضاء هشة، كأنها زبد الموج الصاخب، أو شعر عجوز شمطاء اجتثته وهي مغيظة محنقة، أو العهن المنفوش، أو القطن المندوف

ثم حشدت فيلق المزن في عنان الجو، تتردى حبر الحداد، وتبكي وتنتحب، وتجهش بالعويل، فتسمع لها شهيقاً وزفيراً؛ وتسكب الدمع مطراً هتوناً تسقط حباته على الأرض كأنها نقرات الدفوف، أو عصا جبار ينكث الأرض موجدة وغيظاً، أو حجرات مسلم متعبد يرجم الشيطان بمنى، ثم تزدحم به الأودية فيطغى ويكتسح كل ما يعترض موكبه الهائج وتياره المائج

وها قد نفخ الشتاء في بوقه، فحشرت إليه شياطينه من كل فج، وولى مشيعاً باللعنات، وطفقت حرارة الحياة تتمشى في أطراف الدنيا، فتنهض الطيور الهاجعة، وتتثاءب البراعم

<<  <  ج:
ص:  >  >>