للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بمناسبة ذكرى حافظ]

بين السياسة والأدب

ينظر الأدب المصري اليوم إلى السياسة نظر الَمغِيظ الحانق لطغيان جلالها على جلاله، وعدوان سلطانها على استقلاله، وعبث أهلها بأقدار أهله عبث الهوى المتحكم بقوانين العدالة!

شهد الأدب في هذه الأيام جنازة سياسية لمرقص حنا باشا. وجنازة أديبة لأحمد زكي باشا، وسمع بذكرى سياسية لسينوت حنا بك، وذكرى أدبية لحافظ إبراهيم بك؛ فأما الجنازة السياسية والذكرى السياسية فكانتا مظهرين من مظاهر الوطنية الرائعة، ومظاهرتين من مظاهرات القومية المتحدة، شملت البلاد، وشغلت الصحف، وأرهفت الشعور، وأرهبت الحكومة، ونفَّست عن العاطفة العامة المكروبة؛ وأما الجنازة الأدبية والذكرى الأدبية فكانتا شاهدين على هذا التواضع المسكين الذي يصاحب العلم، وأثرين لهذا البؤس المهين الذي يلازم الأدب، فشيَّع الأولىبعض الأصدقاء وبعض الخاصة، ونسى الثانية كل الأصدقاء وكل الخاصة، ثم تهامست بين الناس الشكاوي، وتملقت من الأنصار المعاذير، وتجاوبت في الأقطار الشقيقة أصداء الأسف، ونعى كاتب سورية الكبير صاحب (فتى العرب) على مصر عقوق الأدباء وجحود العباقرة؛ وليس في نظرنا مما يبعث الشكوى من السياسة، ويثير السخط على الجمهور، ويستوجب الملامة على مصر، فان السياسة تقوم بواجبها، ولا تحول بين أحد وبين واجبه.

السياسة عقيدة، والعقيدة تحييها الشعائر، وتنميها المظاهر، ويقويها الحشد، وينشرها الإعلان، ويديمها التذكير، وتجددها الدعاية.

والسياسة مبدأ، وهذا المبدأ نفسه يريد أن يكرم في ذكرى الميت كما كان يكرم في وجود الحي، وما حالات السياسي إلا مناسبات يُهتف فيها بفكرته لا بصورته.

والسياسة جهاد، والجهاد يدعو بتكريم البطولة إلى البطولة، وبتعظيم التضحية إلى التضحية.

والسياسة حكومة وخصومة، ومن حق السياسة المكبوتة أن تتلمس الحرية في كل فرصة، وتتنشق الراحة من كل فُرْجَة

<<  <  ج:
ص:  >  >>