والسياسة جاه وقوة، ومن طبيعة النفوس أن تشايع الجاه وتبايع القوة ابتغاء لمنفعة أو اتقاء لمضرة
والسياسة بعد ذلك كله للشعب، فرجالها زعماؤه، وضحاياها شهداؤه، ومواقفها مواقفه
أما الأدب فلا نصيب له من بعض ذلك، ليس عقيدة للعامة، ولا فكرة للأمة، ولا ساحة للنفوس المجاهدة، ولا مطمعة للعيون الرغيبة؛ إنما هو فن الخاصة وبغية الرجل المثقف، فإذا لم يحتفل أهله بأهله، وينوه جمهوره بفضله، ذهب أثر رجاله من الدنيا كما تذهب أنغام موسيقى الجيش بعد المعركة، ثم لا يبقى الفخر والذكر إلا للجند والقادة
الأدباء هم الملومون على هذا العقوق، والصحفيون هم المسئولون عن هذا الإهمال، وشهوة المنافسة وعداوة الحرفة، هما اللتان تفسران البواعث على هذا والدوافع إلى ذاك؛ والأديب الذي يَنْفِس على أخيه محنة الوجود، يجد الأولى أن ينفس عليه نعمة الخلود، والأدب في الحياة وفي الممات شر على صاحبه، فإنما لا نزال نشهد كل يوم معارك الأهواء بين الأدباء الأحياء تقطع وشائج الصداقة، وتخفي دلائل النبوغ، وتزيف حقائق الفضل، ثم لا تترك منهم للتاريخ إلا أشلاء منكرة من الأدب والفن والخلق. ولا نزال نسمع من يذكر المنفلوطي بالسوء لأنه اصطنع الأدب الباكي، كأن للكاتب يداً في تركيب مزاجه، وتكوين بيئته، وتأليف ظروفه، وتثقيف ملكاته. كذلك لا نزال نسمع من يشدد النكير على شوقي لأنه عالج في بعض عمره شعر المديح، كأنه نشأ في ظل الدستور وعهد الديمقراطية وعصر الجماعة، وكأنه كان يمدح عباساً لأن المتنبي كان يمدح سيف الدولة!
نعم كان أمس ذكرى حافظ، وكان أول أمس ذكرى سينوت! فهل رأيت بعينك وفاء السياسة وجحود الأدب؟. إن حافظاً رحمه الله ما يزال يقتضي أصدقاءه الخلَّص حفلة التأبين وتأليف الكتاب، فهل من المعقول أن نطلب من شعبه المغلول إحياء الذكرى وإقامة التمثال؟
ولقد كان من جرائر نحسه الذي ظل بعد موته حياً يعيث، أن مواهبه السامية في الشعر والبلاغة قد أخذ ينالها النسيان وتشوهها الغفلة، فما يذكره الناس حين يذكرونه إلا بحلاوة النادرة وبراعة (النكتة) وحسن الحديث، حتى خشينا أن يصبح في الخاصة ما أصبح أبو نواس في العامة.!
فَمَنْ مُبْلغٌ حافظاً الصديق أن المودة بعده أصبحت لا تبقى على المحن، ولا تقوى على