للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ليلى المريضة في العراق]

للدكتور زكي مبارك

- ٦ -

وما كانت ظمياء تفوه بالعبارة الأخيرة حتى ابتدأت أوقن بأني سأهتدي إلى سر ليلى. وقد عرفت أيضاً أنه لابد لي من التجمل والتوقر حتى يصل الحديث إلى مداه، فقد قضيت دهري وأنا أرعن أهوج لا أكاد أسمع الحديث عن الحب حتى يفتضح وقاري أشنع افتضاح. ولن أنسى ما حييت تلك الخسارة الفادحة التي قضت بأن يطوى عني إلى الأبد سر السيدة (ن) فقد كانت عرفت من صواحبها أن شفاءها عندي، وجاءت الشقية إلى عيادتي بشارع المدابغ، فلما فحصتها تبين أن العلة لها سبب مدفون، وكنت بحمد الله ولا أزال من أقدر الأطباء على تفرس المحجب من سرائر النفوس. . . انهدَّت تلك السيدة على المقعد، وبدأت أحاورها في ماضيها لأعرف سرَّ العلة، فما كادت تقرأ السطر الأول من صحيفة ذلك الماضي حتى طار صوابي، فوضعت يمناها على صدري، ولكن الشقية لم تمهلني وأفلت كالظبي المذعور. وبذلك طُوِي عني سرها إلى الأبد. وكانت تلك الحادثة سبباً في انتقالي من شارع المدابغ إلى شارع فؤاد.

وما احسب ظمياء إلا صورة من السيدة (ن) وربما كانت أفظع وأعنف فهي عراقية، والعراقيون تغلب عليهم سرعة الانفعال؛ والمرأة العراقية فيما سمعت ورأيت لا تسكن إليك إلا إن ضمنت حسن الأدب وكرم العفاف، وهي عندئذ لا تحتاج إلى من يستدرجها لمعسول الأحاديث، وإنما تنطلق كالبحر الثجاج، فإذا ارتابت في أدبك. . . لا أدري ما تصنع فإن الله رحمني من أمثال هذه المواقف منذ قدمت العراق، وهو عز شأنه قادر على أن يردني إلى وطني مُشرق الجبين.

وجملة القول أني تجلدت وتماسكت، فمضت ظمياء تتحدث، ومضى المطر يقرع النوافذ كأنه عذول، وبين القلب الخافق والسحاب الدافق صلات يعرفها من يؤمنون بوحدة الوجود.

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم وقف قطار المعرض، فلم تنزل ليلى ولم ينزل الفتى ذو العينين الخضراوين. ودار القطار دورة ثانية قطعتها في ذهول.

<<  <  ج:
ص:  >  >>