وقال صاحب سر (م) باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من مَلاَحدة أوربا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرّة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني إن أحد الكلاب كان شاعراً فيلسوفاً، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيّرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وتفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتاباً نفيساً ضخماً كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضاً عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا. . . .
قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. . . إذ دخل عليَّ كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم المفتونين بأوربا ومذاهبها وعُلويَّاتها وسُفلياتها. . وهو يكتب في الصحف ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاَّح شاركه في زراعة أرضه فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدَّده بالنقمة.
وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إليَّ وعرَّفه لي تعريفاً قاموسياً محيطاً من مادة كَفَر يكْفُر. . . ثم قال بعد ذلك إنه (بيَّاع كلام) يصدق ويكذب حسب الطلب. . . والذمة نفسها ليست عنده إلا (عملية حسابية)؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها.
أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يُتمُّ بهائمه أم بهائمه هي التي تُتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى المحكمة لا يكون إلا كالذي يُقَعْقعُ بالعصا على جُحْرٍ فيه الحَّيةُ السامة.
ورأى المتفلسف الكتاب على يدي فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا. . فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيَّل إلي أني أرى فيه نفسه الشرقية كالمرأة المطلقة. . . فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوربا ولكني لم أشتر منها دماغي. .
وكلَّمته أستخرج ما عنده فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه.