وكان جريئاً في كلامه مع الباشا يطرد القول حيث شاء حقاً وباطلاً، ثم لا سِنَاد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأى فلان كأن في رأسه عقلاً شحاذا. . . ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له فخجَّله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك تحتاج إلى رأي فيلسوف أوربي. . . وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره.
ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالماً وهو صعلوك علمي. . . وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين. إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه ليجعل له ثبات الحقيقة فيُظنَّ حقيقة، كأن خَضْخَضَةَ الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج. وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين - أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئاً فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم. . . وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كأن حقيقة مدة سنة. . .
هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية كالبعد بين العالم والجاهل؛ ولو حققوا لرأوه بعداً في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور وبين التقوى وما أشبه التقوى.
زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي كأنه باقٍ في أمسِ لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن؛ وخرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها؛ وادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها. . .
وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العامي لما وجدت في أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له املأها لي من آراء الفلاسفة. . .
يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه، بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم وألا يناقض الهداية. (قالوا بل نتبِعُ ما ألفينا عليه آباءنا. أوَلو كان آباءُهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). وفي الآية الأخرى:(قالوا حَسبُنا ما وجدنا عليه آباءَنا. أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون). وفي الثالثة:(قالوا بل نتَّبعُ ما وجدنا عليه آباءنا. أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) وفي الرابعة: (إن