ولدت إنجليزياً ولكني قضيت الأيام الأولى من عمري في بلدة نائية أجنبية، وليس لي اخوة ولا أخوات، وقد توفيت والدتي وأنا في المهد فوجدت في والدي الرفيق والمعلم والصديق، وقد كان هذا الوالد الأخ الأصغر لأسرة شريفة وبيت عريق. أما ما حدا به إلى ترك بلدته وأصدقائه وتجنب المجتمعات والإقامة ببلدة كالصخرة فقصة قائمة بذاتها لا دخل لها بقصتي هذه
قلت أن والدي أقام ببلدة كالصخرة لأن بلدتنا لم تكن في الواقع إلا كذلك: قفار حالكة عرضة للسافيات، وأشجار عجزت عن النمو، وعشب جاف، وتجاويف لم تهتد إليها النجوم ولم يعرف ضوء الشمس مكانها إلا من بعض فجوات بالصخور التي تعلوها، تجتازها مياه قاتمة مغبرة ترغى وتزبد أثناء سيرها في طريقها الصخري. هضاب غطتها الثلوج المتراكمة تأوي إليها الطيور الجارحة وينبعث منها صوتها المرعب المخيف إلى عنان السماء التي أبت أن تتدثر بالسحب على ما بها من شحوب وخوف وهرم. كل هذا ينم على حال تلك البلدة التي سلخت بها الأيام الأولى من حياتي. أما مناخها فلم يغير من المناظر التي تحيط بمنزلي إلا قليلاً وإن كان في بعض الأحياء الأخرى يحل صيفها المفاجئ الذي لا يعقبه خريف بشهوره الثلاثة لطول شتائها؛ وربما في فترات قصيرة الأمد يذوب الثلج في الأودية وتفيض المياه ويظهر نبات أصفر غريب يفتر ثغره عن بسمات خبيثة موجهة لبعض أجزاء من هذه الصخرة العالية لأمثال هذه المناظر التافهة من تقلبات الفصول. قضيت أيام حياتي عاماً فعاماً. وكان والدي مغرماً بالعلوم الطبيعية ومشاركاً في باقي العلوم فدرس لي كل ما عنده. وكان للطبيعة الفضل في سد النقص بما أوحت إلى قلبي من دروس عميقة صامتة وهي تكشر عن نابها وتعبس. علمت قدمي الركل وذراعي اللكم ونفثت في رغباتي روح الحياة وألهمت طباعي الجد لا الهزل. علمتني كيف أعانقها وإن