وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة ثم رجع تدور عيناه في جِحَاظَيْهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار. فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين. . .
وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما. فقلت له: يا أبا عثمان هاتان ذبابتان ويقال إن الذباب يحمل العدوَى
فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة. . . فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر، وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثلما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه. وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلاماً لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة. . . كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح في معنى الطلب والتكليف.
وكيفما دار الأمر فإن كثيراً من كلام الصحف لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباباً على وجوه القراء.
قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت مُتَطَلِّقاً إلى رئيس التحرير ورجعت متعقداً فما الذي أنكرت منه؟
قال:(لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ إليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها). هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة كما هي السياسة في هذا البلد. . . يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعاً كهذه الرقع في الثوب