كتب التاريخ طافحة بأخبار المستعمرين الطغاة، وأزعم أن ليس بين الحكومات المستعمرة كالحكومة الفرنسية التي حاولت بكافة وسائلها الجائرة إماتة السوريين فأحيتهم، وإحياء اللبنانيين أضلتهم.
قل من الناس من يجهل كيف فرضت فرنسا انتدابها على سورية فرضا، وكيف انتفضت عليها بجحافلها فاجتاحتها اجتياحاً، وكم عانت في إخماد الثورات الدامية التي أشعلها أبناء سورية الأشاوس، وكم تحملت البلاد من ويلات ونكبات من جراء تلك الثورات التي لم تخمد نارها إلا بعد ما انكشح آخر جندي فرنسي عن البلاد. ولكن قل من يذكر أيضاً أن فرنسا لما أيقنت أنها مجبرة على ترك البلاد الشامية نهائياً، وأن صلابة الشعب السوري واستماتته في دفع بلاء الانتداب عنه قد أصابها في صميم كبريائها الاستعماري، وان الخيرات والأسلاب وما استنزفته من دماء السوريين، لا يساوي الجزء الواحد من ألف الجزء الذي أنفقته فرنسا المسيحية خلال عشرات السنين، أقول لما أيقنت حكومة فرنسا أنها مرغمة على الخروج من سورية وأنه لم يعد لها ثمة سبيل إلا سبيل الانتقام، عندها أوعزت إلى طائراتها أن تفرغ قنابلها المحرقة، وتصب حممها المشتعلة، على قلب دمشق، فسرعان ما قامت الحرائق، وشبت النار كأنها تزغرد فرحا بارتحال الفرنسيين وما عتمت تلك الحرائق أن انطفأت بد أن التهمت حيزا واسعا من دور قائمة في قلب المدينة
بهذه الحرائق شفت فرنسا غليلها من السوريين، وبهذه الحرائق أثلجت صدرها المحترق من أموية السوريين
لم يبك السوريون ديارهم المحترقة، ولم يندبوا تراث الآباء وآثار الأجداد، بل قاموا قومة رجل واحد، قومة دمشقية مبعثها العقل والجد والحب والإخلاص، فطهروا الأرض من الأنقاض، وأسسوا الأسس القويمة لمدينة جديدة، كأن مطران رحمة الله عناها بقوله:
بنوها فأعلوها فما هي غير أن ... جرت أحرف مرسومة فوق قرطاس
بدت إرم ذات العماد كأنها ... من القاع شدتها النجوم بأمراس
في قلب المدينة الجديدة ضللت الطريق، وأي دمشقي مغترب مثلي لا يضل السبيل في