بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، اشتد إمعان تركيا في الضغط على الشرق والاستبداد بأبناء العروبة حتى فيما يمس دينهم وينال اختصاصهم، ومن ناحية أخرى أخذ طمع الاستعمار الأوربي يفتح فاه على الشرق يريد التهامه ويطمع في ابتلاعه، وقد ابتدأ يتخطف أجزاءه، ويتحيف جوانبه. مرة بالحيلة، وأخرى بالوقيعة، وثالثة بالسطوة والقوة، وكان من هذه (الرزايا التي حلت بأهم مواقع الشرق أن جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة علل الضعف، مؤملين أن يسترجعوا ما فقدوا من القوة، راجين أن تمهد لهم الحوادث سبيلا حسناً يسلكونه لوقاية الدين والشرف،. . وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي، ولا يقصرون في الجهد)، وكان رأس هؤلاء المصلحين الداعين السيد جمال الدين الأفغاني رضوان الله عليه.
هال الأفغاني أن يرى الشرق بين أنياب الاستعمار الأوربي تنوشه من كل جانب وتدميه في الصميم من قلبه ووجدانه، ومع هذا فهو يغط في سبات عميق، وأهله في فرقة كلها التخاذل والتنافر، والدولة التي تحمل لواء الخلافة ليست لها صلات صحيحة - كما يقول - بأمم الشرق وأقطار العربية، وقد كان الرجل يعجب أشد العجب إذ (يرى للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم ويقينهم، يباهون بها من عداهم، حتى ليشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء) ومع هذا يراهم (في شقاق مقيم، وتنافر أليم، وغفلة عما ينتظرهم، ويلم ببعضهم).
أقول هال السيد الأفغاني ما رأى وما كان يتوقع من مقدمات الحوادث، وأفزعه ذلك الشتات في الجامعة الإسلامية، وتحقق له أن الفرقة علة الشرق المتوطنة، وداؤه المتمكن، فنهض يصيح (بأرباب الغيرة من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحجة والحق ألا يتوانوا فيما