وجاء ابن أبي عَتيقٍ (هو عبد الله ابن محمد أبي عتيق ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق)، فوالله لأن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ!
كانَ رجُلاً ضربْاً خفيفَ اللَّحم أحمر طِاهِرَ الدَّم كأنّ إهابه شُعْلةً تشبُّ وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعر، مخروطَ الوجه، أزهر مُشرقاً كأنّ بين عينيه نجماً يتألق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جفْناهما حتى رقَّا، يرسلُ إليك طرَفةُ فترى الضحك في عينيه خِلقَةً لا تكلّفاً. ما احسبني رأيته مضرةَّ إلا خلْتُه دعابةً قال لها الله: كوني! فكانتهُ. وكأني به قد دَخل على أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكيِد بنفسها - في مرضها الذي ماتت فيه - يقول: كيف أصبحت يا أمّاهُ؟ جعلني الله فِداكَ! فتقول عائشة: أجَدُني ذاهبةً يا بُني! فيقول: فلا إذنْ يا أم المؤمنين!! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق!! فيقول: أرضاكِ الله يا أماَّه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيِ، ما تركتُ له دعابتي حتى يستضحك، فيرحل بي عن الدُّنيا بوجهْ غير الذي جاء به!
فلو أنّ أمراً من عرضْ الناس لا أعرفه، جاءني فزعم أن نجماً في السماء بكى، وأن القَمرَ مدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكان أقرب إلي منْ يأتي آت يقول هذا ابنُ عتيق في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يعرفُ فيهما البُكاء!
رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر من جده (عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر)، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبيّ له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهج. . . وآب إليه من جده (أبي بكر الصديق) حنان التقي وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفء الأبوّةِ فتأوي إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح لا ينتهي