لما وضع أرسطو مذهبه في النقد الأدبي، أقامه على المنطق والفكر، واعتبر العقل وحده كلَّ شيء في أدراك الحقيقة الفنَّية النافعة، يكشف ويوضح، ويقيس ويضبط، ويتلمس ويعلل، وينتهي من وراء ذلك كله إلى جملة من الضوابط والقوانين، يراها صالحة في كل زمان ومكان لقياس الفن، وتقدير الأدب، وفهم الجمال. فكأن النقد عند هذا الفيلسوف الخالد، باب من الفلسفة؛ وبحث في العلم، فهو يعالجه بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر، والشاهد البينّ، فأما الحس فلا اعتبار له عنده، ولكنه - كما يقول المعري - زجر طير هي خليقة بالكذب، فأن صدقت فباتفاق!!
هذا المذهب الذي وضعه أرسطو كان مثار خلاف بين النقاد من بعده، وخصوصاً النقاد الفرنسيين الذي نهلوا من مراشف الثقافة الغاليَّة، فجماعة من ورائه يقولون العقل فحسب! وجماعة يذهبون إلى أكثر من ذلك فيقولون: العقل والعاطفة. والذين قرءوا تاريخ الآداب الفرنسية يعرفون إلى أي حد كان النقاد في الطور الأول يمجدون العقل ويذعنون لمنطقه، حتى لقد حاول (ماليرب) أن يخضع له قرائح الشعراء وعواطفهم، ثم أتى من بعده (بوالوّ) الذكي الفطن فمنح العقل المرتبة الأولى في عداد الصفات البشرية، واعتبره مصدر كل أثر ذي شأن في النقد والأدب. ولكن لما جاء (شاتوبريان) انتهج في النقد نهجاً أحفل بالفن فقال: إن العقل وحده لا ينتج أعمالاً عظيمة، وإن الناقد الحقيقي من حكّم عقله وقلبه، واستغلَّ منطقه وعواطفه معاً في فهم ما يقرأ. فلما كان العهد الأخير قامت المناظرة حادة عنيفة بين فردينان برونتيير وأناتول فرانس حول الملكات المعتبرة في النقد فقال برونتيير: العقل. . . ثم العقل. . . ثم العقل. وقال فرانس: كلا!! لا يمكن أن يكون فن الأدب غير عاطفي، وكذلك نقده. لأن الفن ذاته عاطفة، وكاذبون هم أولئك النقاد الذين يزعمون أنهم قادرون على انتقاد الأدب وتقديره دون عواطفهم! وعندي أنه ليس أسخف من ناقد يتخذ مقاييس الألفاظ والأوزان في نقد قطعة فنية نفخ فيها صاحبها من عواطفه، واعتصرها من روحه وإحساسه، فأن المشاكل الخفية في الأدب والنقد لا يحلها علم النحو