للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[درس ينفع أبناء هذا الجيل]

للدكتور زكي مبارك

يختلف الناس اختلافاً شديداً في قوة الحس ويقظة الروح. والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية، وهما السناد الأعظم للكاتب والشاعر والمفكر والفيلسوف، وبقدر اختلاف هؤلاء في النصيب الموهوب أو المكسوب من هاتين الجارحتين تختلف حظوظهم في السيطرة على أهواء السامعين والقارئين. والذي يقرأ تراجم الأكابر من الكتاب والشعراء والوزراء يرى أنهم كانوا في الأغلب أصحاب شهوات. وهنا يشتبه الأمر على القارئ المبتدئ فيسأل: كيف تجتمع العظمة والشهوة؟ وهل تكون الشهوة من وسائل العظمة؟ ونجيب بأن الخضوع للشهوة عيبٌ نهي عنه الحكماء، والذي يقترف الفجور تشبهاً بما وقع فيه عظماء الرجال هو مخلوقٌ سخيف، ومَثَلهُ مَثَل (فلان) وهو شخصٌ جيّد الخطّ، وقد شهد له بذلك أساتذته يوم كان تلميذاً في المدارس الثانوية، فلما سمح له الدهر بأن يكون أستاذاً في أحد المعاهد العالية، صار يقبِّح خطه عامداً متعمداً ليندرج في زُمرة العلماء، فقد كان سمع أن خطوط العلماء مَضرِب المَثل في القبح والغموض والاعوجاج!

ولا مؤاخذة يا فلان، فأنت تعرف مبلغ حرصي على الجهر بكلمة الحق. ومن هنا أشفق أشد الإشفاق على الشبان الذين يستهينون بالآداب والتقاليد، لأنهم سمعوا أن أعظم الرجال لم يكونوا يقيمون وزناً لمأثور الآداب والتقاليد. والفرق بين الحالين كالفرق بين إناء تملأه فيفيض وإناء يغلي فيفيض. فالرجل العظيم لا يقع - حين يقع - في الخضوع لإحدى الشهوات إلا وهو مغلوب على أمره بقوة الإحساس، وهو لذلك يظل سليم الشخصية الخُلُقية، ولا كذلك الشاب السخيف الذي يخضع للشهوات تشبُّهاً بالعظماء، فإن شخصيته الخُلُقية تنحل أبشع انحلال، لأنه لم يخضع لهواه طاعةً لقوة قهارة من الحس المشبوب، وإنما يخضع لهواه طاعةً لنزعة مرذولة من نزعات التقليد الممقوت.

يضاف إلى ذلك أن الشهوات المنسوبة إلى العظماء يغلب عليها التزوير والاختلاق، لأن واضعيها يرجعون إلى فريقين: فريق الفجرة الذين يهمهم أن يشاع أن الخلُق السليم ليس حجراً أساسياً في بناء العظمة الذاتية، وفريق الحاقدين الذين لا يتورعون عن خَلْق التهم في التشهير بمن يعادون من العظماء. ولو صح أن الشهوات المنسوبة إلى بعض أكابر الرجال

<<  <  ج:
ص:  >  >>