ليت للأوقاف عيناً تخترق الجُدُرَ وتشق الأستار فترى ماذا يصنع البؤس بأهله!! إنها وا أسفا تسمع ولا تبصر: تسمع ذلك البؤس الملحَّ الوقح الذي يغضب ويصخب ويثور، ثم يقتحم عليها الحجَّاب والأبواب ومعه فوق لسانه الملحف بطاقة من كبير أو وساطة من موظف. وهذا البؤس الذي يدع لأهله قوة السعي وبراعة الحيلة لا يكون في أكثر حالاته إلا طمعاً أو حرفة. أما ذلك البؤس الدفين الصامت الذي يستعين على ضحاياه بكبرياء نفوسهم فيسلبهم الحس والحركة، ويمنعهم الأنين والشكوى، فلا يراه إلا الله الذي فرض الزكاة، وأوجب الرحمة، وجعل على عباده خليفة منهم ينطق بلسانه، ويرى بعينه، ويحكم بأمره
إن في بعض الدور ومن وراء الستور ظلالاً من الحياة الغاربة على أمثال الخيال من بني آدم؛ تنسم أنفاسهم الضعيفة بما بقي من أرواحهم الخافتة في إسلام مؤمن واستسلام صابر. فإذا كشفتهم الحاجة للعيون حسبهم الجاهل أقوياء من الصبر، أغنياء من التجمل، حتى يستوفوا أجلهم المكتوب وتذهب بهم المنون وهم في وحدة الفقر، كما تذهب شمس الصحارى بأنداء الفجر
كان لنا جار مدرس في مدرسة شبرا الثانوية يجثم تحت جناحيه أربع بنات وثلاثة بنين وزوجة وأم، يقلبهم على ما يشتهون من لذاذات العيش الغرير، فيأكلون أكل السرف، ويلبسون لباس الترف، ويلهون لهو المجانة؛ حتى كانت غُرّف البيت من فيض النعيم ومرح العافية كأعشاش البلابل سالمتها الأحداث في جنة من الحُبّ والماء والشجر. ثم لحظتهم عين الدهر فأصيب الأب بمرض السكر؛ وعقر إصبعه الحذاء ذات يوم فأصابته قرحة ساعية. نقلوه إلى المستشفى القبطي فبتر الجراح رجله. وسعت عليه زوجه بالمال والأمل فلم تستطع أن ترد قضاء الله ولا أن تدفع عادى الموت. . . وانقلب المنزل الفرح المرح النشوان قبراً رهيباً يغشاه الحزن، ويجلله السواد، وتخيم عليه الوحشة. فلا زوار يقَدْمون الهدايا، ولا سمار يفدون بالأنس، ولا ولائم تشرق فيها النفوس والكؤوس كل جمعة
وبحثت الزوجة عما خلَّف الزوج الراحل فلم تجد غير ذلك المال الذي كان تحت يدها وقد أنفقته كله في العلاج والجنازة. ونجمت حول بيتها الحزين رموس الدائنين تندلع ألسنتها