كان لا بد للاّغب أن يستجم، وللصائم أن يعيد، وللمجادل في مجد الفراعين أن يزور الأقصر.
وكان (قطار الآثار) قد جرأ الجيوب الهزيلة على أن تباري الجيوب الأمريكية في (وادي الملوك)! وقطار الآثار كقطار البحر فكرة سديدة، تنفذها إرادة رشيدة. .
ولكن حرف (لكن) لا يزال وا أسفاه أكثر أخوات (إن) استعمالاً، وأشدها بحياتنا اتصالاً! فأنا مضطر أن أقول: ولكن هذا القطار لا يصلح إلا لأقوياء البنية، أشداء العصب، ممن يستريحون على الوقوف، وينامون على الرفوف، ويغمضون على ضيق المكان، وكظّة الديوان، وحرج الأسِرة. أما أخو الجسد المهدود، والعصب المجهود، فلا مناص أن يقضي ليله كما قضيت: مقسم النفس بين القلق والأرق، ولا يجد نفسه ولا يملك قلبه!
سار بنا القطار المثقل في منتصف الساعة التاسعة من مساء يوم الاثنين أول أيام أمس العيد، وكان المفروض على راكبه أن يبيت قائماً في الممشى، أو نائماً على (الرف)، أما الجلوس لو أراد، فلا سبيل إليه إذ لا محل له! وكان من الميسور تلطيف هذا المقدور بشيء من لهو الحديث ولو جمعنا الحظ العنيد برفقة من أهل الأنس، ولكنني كنت أنا وصديقي بين أربعة لا يصل أحدهم بالآخر سبب من جنسية أو لغة، فحملونا مكرهين إلى الفراش النابي والوساد القلق. . . ولا أريد أن أثقل عليك وعلى إدارة القطار بذكر ما أعقب ذلك من أزمة الصدر، وضمة القبر، وإزعاج الصحب، وإغاثة الإسعاف، وقضاء الليل الطويل قابعاً أمام الباب لا يخدع في عيني نعاس، ولا ينفس عن صدري فرج، فان علاج ذلك كله إعداد عربة للجلوس يتنفس فيها الساهد المكروب باللهو والسمر.
القطارالجاهد يخوض في أحشاء الليل المظلم، والهواء البارد يسفي غبار الطريق الخانق، والركب المترجح يغط في النوم غطيط الخلي، والكرى الجائر قد غلبني على أخوي فأوى بهما إلى المضجع! وأنا وحدي في هذا القفص الطائر أرعى نجوم الكهرباء في سمائه المحصورة الرفيعة، وأقول في آخر ليلة من ليالي رمضان المحتضر: متى يا اله الناس يصبح هذا الليل؟!