أقصر الطرف، وقرّب الفكر، واقتصد في الخيال، فلا تذهب إلى ما وراء البحار إذ تحسبه في باريس مدينة العلم والنور، وبلد الطرافة والحسن، ومبعث الفتنة والخروج على الوقار. . .
إلى هنا يا صاحبي! في قاهرة المعز لدين الله، موطن المجد القديم والعز التالد والتاريخ الحافل، حيث المسالك الضيقة والدروب الملتوية والشرفات المتشابكة والسطوح المتواصلة والبناء العتيق العتيد، الذي أفنى جدارهُ القرون وما زال تتحلى فيه روعة الفن الشرقي الخالص، وعبقرية الذوق المصري الصحيح. . .
إلى هنا يا صاحبي! حيث الأزهر يعجّ بأبنائه من سائر الأقطار، ومشهد الحسين يضج بقصاده من جميع الأمصار، وخان الخليلي معرض الكهرمان والآبنوس والصدف والعاج والسجاد الفاخر يتلهف عليه السائحون ومجانين الأثرياء؛ والغورية سوق العطر والأصباغ والألوان وكل مساحيق التجميل البلدية والأوربية تتزاحم عليها أسراب الفتيات من كل هيفاء هي منية النفس، ومن كل شوهاء هي فداء إحسان، ومن كل عطبول رداح يفديها صاحبنا بيرم بأبيه وبروحه إذ يقول:
إلى هنا يا صاحبي! حيث يمتزج القديم بالحديث، ويختلط الطيب بالخبيث، ويتلاصق الوضيع بالرفيع، ويتساوى الأصيل بالدخيل، فتتجلى لك القومية المصرية في تباين المظاهر واختلاف الطبقات، وتتبين لك المفارقات في أذواقنا وسلوكنا ومدنيتنا إذ ترى عربات سوارس والكارو ما زالت تجرجر وتكركر إلى جانب مركبات الترام والأتوبيس والفيات. . .