وما أستطيع - ولا أحسبك تستطيع - أن تكتم إعجابها بهذا الظريف وهو يدلك على مواطن الغنى من نفسه، ومواضع العزة في تصرفاته، إذ يوحي إليك أنه غض الطرف عن زهرة الحياة الدنيا، وكف البصر من متاعها القليل وعرضها الأدنى. فينشد مزهواً مرفوع الهامة:
إذن هو يحمد الله - الذي لا يحمد على مكروه سواه - على أنه لم يجعل له مالا ممدودا؛ فليس له خيل مسومة، وأفراس مطهمة، وليس له على الأبواب، حراس ولا حجاب؛ ولا له غلمان وجوار، كأنهم في المبادرة نحوه شعلة من نار: وإنما غلامه الوحيد ابنه وفلذة كبده، وجاريته الفريدة هي زوجته التي دفع إلى أوليائها مهرها فملكها بعد وليمة عرسه. . . فحسبه اليأس مما في أيدي الناس، فأن فيه غني النفس يعتصمن به عن الذين يصعرون الخد، ويقطبون الجبين؛ بل ليأخذن ميثاق نفسه لما أفقرته هزاهز الدهر ثم قعدت به الأيام عن طلب الرزق ليعتزن بكرامته، فلا يقرع باب مخلوق متزلفاً متملقاً، ولا يسأل من الناس سمحاً ليناً لطيفاً، ولا شرساً قاسياً عنيفاً، أعطوه أو منعوه!
يالها من مهارة!
أما وإن هذه المهارة عند أبي العيناء في إبراز شخصيته هي التي أكسبته ثقة بنفسه لا تتزعزع، وأخافت كثيرين من التصدي لمعارضته، لأنه كان سريع الجواب حاضر البديهة