كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل؛ فإذا لم يجد له عملا في المحكمة أنصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة. وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته. وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادةً تلهمه الفكر والبيان؛ ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة. . .
وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان؛ فكان يصحبه شرطيٌّ كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إليَّ لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا؛ ونظر الرافعي أليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلّع لا يكاد يتقار في موضعه. . .
ثم أنصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، وألتفت الرافعي إليَّ يسألني:(. . . وبين تلاميذك الكثير من مثل هذا الشَّمعون؟)
وكلمة (شمعون) عند الرافعي هي عَلَم مشترك لكل فتى جميل. وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي الشاعر؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر. . . وكان اسمه (شمعون) - قال لي الرافعي:(وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى. . .!) - ورآه الرافعي كثيراً في صحبة الكاظمي، فوعى أسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام