يحتفظ التاريخ لكثير من العباقرة والعظماء بسير مفصلة أو مجملة تطالع الناس منها مثلٌ تحتذي في العلم أو الشجاعة أو الصبر أو التضحية أو الإيثار أو التفاني أو نحو ذلك من خصال العظمة أو صفات الشرف. ولهذه المُثل تأثيرات في النفوس، وتوجيهات للقلوب، تتفاوت ويختلف مداها تبعاً لقيمها الخاصة، واختلاف مصادرها ومواردها، وتفاوت وجوه النظر إليها.
ولا يعرف التاريخ سيرة هي أزكى أصولاً، وأطيب فروعاً، وأدنى قطوفاً، وأحفل بالثمار، وأملأ بالمُثل العليا، وأكبر تأثيراً في النفوس، وأصبر على البحث والدرس، وأثبت على اختلاف النظر، وأبقى على وجه الزمان، من سيرة نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وسلم):
فصول متلاحقة، وصفحات مشرقة، وصور رائعة، ومعان كلما زدتها نظراً تجلّت لك منها نواح متجددة تزيدك إيماناً، وتزيدك نوراً، وتفتح أمام عينيك آفاقاً واسعة لا يكاد ينتهي مداها. ولم يكن ذلك لأن (محمداً) صلى الله عليه وسلم (عظيم) أو (عبقري) فما كانت العظمة ولا العبقرية من الصفات التي يحدّد بها فضل الله على نبي اصطفاه وصنعه على عينه، ورعاه وربّاه، وأدّبه فأحسن تأديبه، وأكرمه برسالته، وأمده بوحيه، وإنما كان ذلك لأن (محمداً) رسول الله فحسب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
من بين المثل الكثيرة التي تطالعنا من خلال السيرة المحمدية الطاهرة ثلاثة مثل يقف المرء أمامها معجباً بها مأخوذاً بعظمتها وجلالها كما يقف الناظر أمام صورة رائعة ذات معنى قد أحتفل بها رسامُها وأودعها فنه وذوقه وما وهبه الله من قدرة على الإبداع والإتقان، ثلاثة مُثُل يصوَّر كلُّ واحد منهما أسمى ما يتصوره البشر من الكمال، وأنبل ما يتطلع إليه الناس من النبل، ولا أذكر أني مررت بمثل منها إلا وقفت عنده وقفة تطول أو تقصر، ولكنها تهز قلبي هزاً، وتحلَّق بي في جو من الصفاء الروحي، والنعيم الفكري، لا أحسبني قادراً على وصفه.