١ - هذا يوم من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاه (بالطائف) تلك البقعة الخصبة الغنية بكرومها وبساتينها وفاكهتها الكثيرة: جاء إلى هذه البلدة، وقد احتوته مكة، وضاقت عليه بما رحبت، ولم يألُه المشركون فيها إيذاء واضطهاداً، وقد مات نصيراه: أبو طالب وخديجة، وتجرّأ عليه بعدهما من لم يكن يتجرّأ عليه في حياتهما. جاء إلى هذه البلدة وحيداً فريداً يلتمس النصرة من ثقيف لدينه ودعوته، ويستعين بهم على أهل مكة الذين أذاقوه وأصحابه الويل بضع سنين. يا لجلال الإيمان! ويا لحرارة الإخلاص! رجل واحد يقدم على بلدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يؤمن بدعوته أحد، وهو حلف ضنى، ونضو أذى، وموضع اضطهاد من قومه وإعنات، وقد سارت بذكرى مساءا تهم إليه الركبان، ولكنه مع ذلك يقدم على هذه البلدة مستهيناً بما في ذلك الإقدام من أخطار، لأنه قد فني في دعوته، وأخلص نفسه لربه، فلم يعد يثنيه خطر، ولا يرهبه غرر! فكيف استقبلته (الطائف)؟ كيف استقبلته هذه البلدة الطيبة ذات الجو الهادئ الصافي، الذي من شأنه أن يهذب النفوس، ويعطف القلوب، ويثير نوازع الكرم وبواعث النخوة والنجدة؟ كيف استقبلت هذا الداعي الكريم الذي تتفجر من لسانه الحكمة، وتبدو على قسمات وجهه علائم الصدق والإخلاص؟
لقد (عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها وأشرافها، وهم أخوة ثلاثة، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً؟ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم).
وتمثل، عليه السلام، قومه، وقد علموا برد ثقيف إياه، فكره ما يكون من شماتتهم به وانبعاثهم في إيذائه، فقال للذين ردوه: أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. ولكنهم (أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليهم الناس، فكان يمشي بين سماطين منهم، فكلما نقل قدماً رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، فإذا أذلقته، الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون. . . وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فكلما انصرف عنه من كان يتبعه من السفهاء