اتجه ببصره إلى السماء ودعا ربه قائلاً:(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي! إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي! ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!).
شكا إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، لا تبرّماً بما لقي، ولا تهرّباً مما حمل ولكنه يريد للدعوة نجاحاً عاجلاً، ونصراً سريعاً، ويرى الناس وقد تنكروا لها في شخصه فامنعوا بها تنكيلًا وحرباً لا فرق في ذلك بين المشركين في شعاب مكة، والمشركين في سهول الطائف، فكأنما تواصى الجميع على وأد هذه الدعوة والحيلولة بينها وبين الحياة، ولذلك قال: إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ فإلقاء هذا المعنى في روع النبي صلى الله عليه وسلم، وإجراؤه على لسانه في دعائه لربه كان إيذاناً بأن أمر الدعوة سيتجه بعد اليوم وجهة أخرى، وسيهيئ الله له من القلوب المستعدة ما يكون كفيلاً بتقدمه ونجاحه، وهذه سنة الله في خلقه: أن يأتي الفرج بعد الشدة، والنور بعد الظلمة. وقد كان ذلك فعلاً فلم يطل الأمر بدعوة الإسلام حتى هيأ الله لها قلوب الأنصار في يثرب، واستبدل بالمعاندين المصرّين قوماً آخرين.
وما أعظم هذه الكلمة الطيبة التي يقولها (محمد) لربه في مناجاته إياه (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي!) تلك مرتبة الرضا والفناء في الحب، والاستهانة بكل ما سواه من أهوال الدنيا.
هذا مثل التضحية، والإخلاص للفكرة، والإقدام في سبيلها على الخطر، والفناء وإنكار الذات!
٢ - ومثل آخر يضربه للمؤمنين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه، هو مثل السياسة الرشيدة الحكيمة، المستندة إلى المحبة، القائمة على الإخلاص:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم عطاياه السمحة وكان فيهم من قومه أبو سفيان وأبنه معاوية وغيرهما ممن أسلموا بعد فتح مكة، وجد الأنصار بعض