ومضى صاحبي يعد الفتيات اللائي يعبرن بنا في الظلام واحدة بعد واحدة حتى أربى العد على العشرين، وكلهن يعبرن الطريق منفردات كأنهن رجال، وقل في الطريق من يلتفت إليهن، أو يريهن أنهن أخطأن بالخروج في هذا الليل على انفراد، أو يعجب كما عجب القائل:
ثم قالت وأحسّتْ عَجبي ... من سُراها حيث لا تسري الأسود
لا تَعجّب يا حبيبي فالسرى ... عادة الأقمار والناس هجود
قال صاحبي: لو خرج هؤلاء في ليلة كليلتنا هذه في القرن الماضي كيف كن يخرجن؟
كن يخرجن والمصباح أمامهن في يد الخصي أو الخادم إن كن من ربات الخدم والخصيان، أو كن يتسللن في استخفاء كتسلل اللصوص إن لم يكنّ من ذوات اليسار.
قلت: فإن كانت فتيات اليوم لا يحتمين بحارس ولا مصباح فما أظن العلامة كلها علامة خير! من يدريك يا صاحبي لم لا يلتفت إليهن أحد من أولئك المدلجين في الظلام ولم لا يلتفتن إلى أحد؟ لعل كل عابر من أولئك المدلجين ذاهب إلى موعد! ولعل كل عابرة من أولئك المدلجات ذاهبة إلى موعد مثله! ومن لم يكن من الرجال على موعد فلعل الذي يثنيه عن المناوشة والمغازلة علمه أن الفتاة العصرية تجرؤ الابتداء أو على الإيماء والإيحاء ولا تنتظر حتى يجيء الابتداء من الرجال. فإذا رآها معرضة أو جادة في الطريق علم أن ابتداءه بالمناوشة والمغازلة لا يفيد، وأن الأكرم له أن يمضي في سبيله حتى تبدو له إشارة من إشارات التشجيع.
ليس كله يا صاحبي بخير!
ليس كل هذا من الصيانة بل فيه كثير من الابتذال والهوان، وليست كل شجاعة المرأة خيرا بل حياؤها وجبنها أكرم لها من هذه الشجاعة في بعض الآراء.
وانتقل الحديث من عابرات الظلام إلى الظلام نفسه فقال الصديق: والله لقد ألفناه حتى