_ أيها الموت الرحيم الذي لم أزل أدعوه إلى منذ تألق صباي: تعال أغلق إلى الأبد عينيَّ، فقد طرحت بعيداً عني كل أمل خادع يتعلل به العالم، ويلهو كالطفل. أنا لا رجاء لي إلا بك، ولن أرتقب إلا النهار الذي أرقد فيه مسنداً جبيني على صدرك الطاهر)
وهكذا أصبحت نفسه لا يشبعها لون من ألوان الحياة وآمالها، لا الحب ولا زهوه، ولا الأمل وآفاقه؛ لا يشبعها ولا يطفئ رغائبها إلا لقاء الموت.
قد تسمع هذه اللهجة من غير ليوباردي فتصد عنها، ولكنك تسمعها من هذا القلب الخافق والروح المعذب فتوقظ نفسك الهاجعة وتهيج قلبك الهامد، لأن اللهجة التي ينطق بها الشاعر ليست لهجة خاصة، وإنما هي لهجة الإنسانية التي تأتي من حيث لا تعلم، وتنطلق إلى حيث لا تدري.
يقول ليوباردي: إن الجميل هو عدو الحقيقي، ولكن هذا الجمال الخادع هو - عندي - خير من الحقائق الأرضية الدنيئة. ألا فلنهذب الأشياء التي تفسح ساحات الخيال، فهي أجدى نفعاً على الناس لأنها تبعث على النسيان. إن الآداب هي رفيعة المقام، وهي القائدة إلى المثل العليا، والدرس يبعث على التعزي، وهو يبهج ويلهي النفس. أما الحب فهو نعمة لأنه يتصور ويتأمل. أما الأمل فهو الأريج الفواح الذي يعطر مسارب كل مكان. وإذا كنت أعتقد أن الموت هو خير هذه الأشياء، فلأنه يفاجئ الإنسان المسترسل في أوهامه، لا يقتل هذه الأوهام إلا بقضائه على الحياة؛ لماذا تصلح حياتنا؟ هل تصلح إلا للازدراء؟
- ٥ -
ومن الغريب أن ترى ليوباردي الكاتب يناقض ليوباردي الشاعر، فرسائله لا تكاد تخلو من ذكر الله وهو في شعره جاحد لوجوده، يقول في إحدى رسالاته (والأجل الذي كتيه الله لي