الأصل في الديمقراطية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لا رئيس ولا مرءوس، ولا قاض ولا محكوم؛ فقد ابتدع بعض مفكري الإغريق هذا النظام كأنه حلم خيالي لتحقيق العدالة، وإيجاد نوع من المدينة الفاضلة، حيث يعرف كلُّ حقه لنفسه، ويؤدي واجبه لغيره، فيرتفع الظلم، ويعيش الناس أخواناً
وقد تطور هذا المعنى للديمقراطية تطوراً ينزل به من آفاق الخيال، فأصبح رمزاً للنظام النيابيّ، إذ ينتخب الشعب من بين ثقاته نواباً يتولى مجلسهم مراقبة الحكومة فيما تأخذ وما تدع، ويحث الحكام على تحقيق الأغراض التي يدعوا إليها الصالح العام. وهذا النظام يختلف باختلاف البلاد وخصائص الأمم، فكان في اليونان جمهورياتٍ متعددة بتعدد المدائن، وكان في الرومان يتمثل في مجالس الشيوخ والأعيان؛ وهو في العهد الأخير: ملكية ديمقراطية كما في إنجلترا، وجمهورية ديمقراطية كما في فرنسا، والمدلول في كل هذا واحد، هو أن تكون بيد الشعب مقاليد حكمه، وإليه يصير الأمر في الهيمنة والسلطان
ومما بعث مفكري الأمم وساستها على اقتراح هذا النظام، رغبتهم في أن يدرءوا طغيان بعض الطبقات على بعض، فارتأوا أن النظام النيابي كفيل بضبط الحقوق العامة، وبسط المساواة بين الناس
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الأسلوب في الحكم من ناحية تَمَثُّلِه في هيئات نيابية صحيحة، لم يقم شك في أن العرب الأولين لم يعرفوه؛ فلقد كانوا في رحاب الصحراء يعيشون على نظام القبائل، وكانت العصبية والأنفة تحول بينهم وبين الاندماج، فكل قبيلة تتفرد بأبنائها، وتعتز بحرياتها بقدر مالها من سطوة ونفوذ؛ وكل شخص يتفرد بنفسه ويعتز بحريته في حدود ما تفرضه عليه قبيلته من واجبات وتبعات. فلما جمع الإسلام شملهم كان من العسير إخضاعهم لنظام نيابي كالذي شاع عند الإغريق، لأنهم حديثو عهد بالنظام القَبَليّ، وما يزال فيهم من العصبية الجاهلية أثر. وليس يعيب الأمم العربية أنها عدلت عن أسلوب الإغريق في الحكم، واقتربت من أسلوب الفرس؛ فإنما تصطنع الأمم من نظم السياسة ما يلائم البيئة والطبع