ولكن الدول العربية التي لم تتخذ مظاهر الحكم الديمقراطي كما رسمه واضعو هذا النظام، كانت في حقيقتها وجوهرها - في كثير من العهود - حافلة بثمرات الديمقراطية في القيام على صوالح الرعية. فالخلفاء والأمراء الذين حكموا البلاد حكماً قد يعتبر أوتقراطياً في المظهر، كانوا يتبعون تعاليم الإسلام في التشريع والتنفيذ، وهي تعاليم ديمقراطية الروح. ولذلك نعم الناس في ظلال هذا الحكم عهوداً كثيرة بالمساواة في الحقوق والواجبات، وبالحريات الفردية في تصريف الشئون. وكان الحاكم حريصاً على ذلك ابتغاء مرضات الدين، واستجلاباً لتأييد الأمة، عليه من ذمته وضميره رقيب فوق رقابة الرأي العام. فإن أخل بشرائط العدالة، وتجافى عن النزعة الديمقراطية في السياسة، ثارت عليه الأمة حين تُمْكِن الفرصة، واستبدلت به حاكماً يوفر لها حرياتها على النهج القويم
والآن نسأل: هل يصلح النظام الديمقراطي للحكم؟ الحق أن هذا النظام الديمقراطي القائم على أساس الانتخاب النيابي أفضل نظام عرف حتى اليوم لنشر العدالة، ودفع الطغيان الحكومي، ولكنه لا ينتج نتاجه الطيب في الأمم العربية إلا إذا توافر له أمران: الأول قلة الأحزاب، فإن الأحزاب ضرورية للتنافس والمراقبة، ولكن الإقلال منها ضروري أيضاً لما أدت إليه كثرتها من اضطراب وزعزعة في الحكم. والأمر الآخر: تربية الشعب، فلا بد أن يكون على درجة من الثقافة والتربية الخلقية والاقتصادية يتمكن بها من الهيمنة على نفسه، وانتخاب الأكفاء الصالحين للنيابة عنه
ولسنا ننكر أن الإصلاح في ظلال الحكم الديمقراطي بطئ الخطأ، وذلك لخضوعه للرقابة وما تتطلبه من تعدد جهات النظر؛ إلا أنه على أية حال يأتي بالنتائج المرضية، وهو أوفى نظام يقر الطمأنينة في نفوس الأمة على اختلاف طبقاتها. وإذا اجتمعت لتنفيذه أيد رشيدة وقلوب مخلصة كان أحسن نظام لإقرار العدل وإيتاء النفع العام
فأما القول بأن الديمقراطية أعلنت إفلاسها في سوق الحكم، فهو قول يلقى على عواهنه في غير تبصر، لأنه حكم الواقع الوقتي بحالته الخاصة. وما الديمقراطية إلا نظام يجب أن تجري عليه سنة التطور؛ ولكن روح الديمقراطية حقيقة صالحة يجب أن تبقى وأن ترعى. والذي أنكرناه قبيل هذه الحرب الراهنة، مما سميناه إخفاق الديمقراطية، كان خليطاً من الأسباب والآثار، منها ما أعقب الحرب الماضية من اضطراب الميزان الاقتصادي، وتزايد