كنا في سنة ١٩٢٠ نسكن حي الغمرة في شمال القاهرة؛ وكان يساكننا في العمارة التي نحن نعيش فيها أسر مختلفة الجنس والدين والطبقة تعيش كل أسرة منها في انعزال عن الأخرى فلا يتلاقى الجيران إلا على السلم أو لدى الباب. وربما لقي الجار جاره في بعض الطريق فلا يعرفه، إلا إذا كان ممن يعلق شخصه بالذهن لسمة تميزه من سائر الناس كحسن يخترق البصر، أو قبح يسترعي النظر، أو شذوذ يشغل البال. . . من هؤلاء الذين يدخلون في هذا الاستثناء المعلم فهمي رزق أستاذ الدروس الخصوصية في حي (الظاهر)، ومدرس الدين والعربية في مدرسة (التوفيق)، فلا تجد أحدا من سكان العمارة ولا من قطان الحي ينكره إذا رآه، أو لا يذكره إذا عرفه! كان يسكن الشقة المقابلة لشقتنا، وكانت هذه الشقة لا تفتح في اليوم كله إلا أربع مرات: مرتين حين يغدو هو وأخوه الأصغر في الصباح، ومرتين حين يروحان في المساء، ثم لا يدري إلا الله أتغلق بعدهما على أم أو زوج أو أخت أو خادم. لا يستطيع بشر أن يعرف ذلك، لا بالعين لأنه لا يرى إنسانا في نافذة، ولا بالأذن لأنه لا يسمع صوتا في غرفة. أما الشذوذ الذي يغري به الطرف ويجمع له البال فهو شكله العجيب: كان مفرط القصر واسع البطن دقيق الأطراف أو قص العنق مخروط الوجه أغوص العين أكزم الأنف أهرت الشدقين غليظ الشارب والحاجبين. ومالي أطيل عليك بالوصف، وأنت تستطيع أن تخفف مئونته على قلمي إذا تصورت كرة أرضية من الخشب أو من غيره قطرها متران، وضع فوق قطبها الأعلى وجه عليه طربوش، وتحت قطبها الأسفل قدماني هما حذاء، ثم تدلى من الجانب اليمن ذراع قصيرة في آخرها مذبة عاج، ومن الجانب الأيسر ذراع أخرى في طرفها جريدة (الوطن)، ثم اكتسى الظهر والذراعان جاكتة كحلاء، واكتسى البطن والساقان بنطلونا أبيض؛ فإذا تخيلت بعد ذلك هذه الكرة تمشي فتدب في البطء دبيب السلحفاة، وتخطو في السرعة خطو الأوزة، اجتمعت في ذهنك صورة مقاربة للمعلم فهمي حينما رأيته لأول مرة يتدحرج هابطا في السلم؛ وكان قد علم من قبل أن جاره مدرس الأدب في الإعدادية الثانوية، وناقل الآم فرتر هذا العام إلى العربية، فلما أبصرني صاعدا حياني وعرفني بنفسه، ثم سألني أن يجلس إلي في القهوة قليلا ليعرض علي مسائل في الإعراب له فيها رأي. فقلت له: ولماذا نجلس في القهوة وبين بيتي وبيتك خطوتان إذا شئت خطوتهما إليك في أي وقت تحدده. فقال: أفضل أن