النضال بين المتقدمين والمتأخرين نضال قديم ساير الاجتماع على ممر الأجيال. فكل جيل طموح ونزعات تجعله ينظر إلى الجيل السابق بعين الاستخفاف بل العدوان. . . ولئن أردنا أن نقيم دليلا على هذه الحقيقة البسيطة وجدنا التاريخ حافلا بالأمثلة العديدة الشائقة في الميادين المختلفة من مذاهب أدبية أو فنية أو سياسية ونظريات علمية ومناهج تاريخية. . . الخ، وقد يرجع هذا النضال إلى طبيعة الإنسان وشغفه بالجديد. . . (سنة الله في خلقه). . . ولكنه قد يرجع أحيانا إلى التقدم الحقيقي والتعمق في البحث. فقبل أن يكتب النصر للجديد المتأخر لابد له من مقاومة القديم وإقناع مشيعيه، وهناك تغيرات واتجاهات لا تخلو من الخطورة على إخفائها وقلة ظهورها في الخارج يجدر بالباحث أن يحاول إماطة اللئام عن سرها وإبرازها بوضوح لأنها كثيراً ما تكون (مفتاحاً) لفهم تطورات أخرى ضخمة. ونريد اليوم أن نقف برهة عند نضال كان له أثره الخطير في تكييف علم الكلام، ونحن نعني طريقة المتأخرين التي حلت محل طريقة المتقدمين في القرن الخامس الهجري.
يقول أبن خلدون في مقدمته إن أول من كتب في الكلام على طريقة المتأخرين هو الغزالي، وقد ردد هذا الرأي كثيرون ممن أرخوا لتطور علم الكلام ولا سيما الشيخ محمد عبده. ما هي في رأي أبن خلدون، هذه الطريقة؛ وكيف تتميز من طريقة المتقدمين؛ وهل أصاب أبن خلدون في رأيه: تلك هي النقط التي أحب أن أعرض لها اليوم على صفحات (الرسالة).
أما طريقة المتقدمين فقد يراها أبن خلدون متحققة في الأخص
عند الباقلاني (المتوفي سنة ٤٠٣١٠١٣). فبعد سرد الظروف
التي هيأت لعلم الكلام نشأته والتكلم عن الأشعري أخذ يقول:
(وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من
بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر