. . . أنا أعجب أشد العجب من أمر واحدِِ هو في الحقيقة الأمر كله: ذلك هو فشل الجمعيات الخيرية في بلادنا. ولا أدلّ على هذا الفشل من قلتها، ولا دليل على هذه القلة كانفراد الجمعية التي نحن اليوم في احتفالها وذهابها بمجد التأسيس بين السوّريين. وأن السابقة في الخير والاتحاد والثبات والإحسان وإخلاص النية إنما هي لها وحدها
ووجه العجب أننا إما أن نكون قد تجردّنا من حب الخير فلا نجتمع، وإما أن نكون لا نحس عمل الخير فلا نجتمع عليه. لا مناص البتة من إحدى الخصلتين أو من كلتيهما. وقد نعلم أن قوام كل عمل بنظامه وتصريفه على أصوله الطبيعية التي من شأنه أن ينصرف فيها؛ فإذا كان جمع المال يجرى على أصول اقتصادية محضة، فإن إنفاقه كذلك يجرى على فعل هذه الأصول، وما يجمع المرء إلا ما يفضل عما ينفقه. والإحسان إنما هو وجه من وجوه الإنفاق، وليس كالشرقي رجل مفطور على حب الإحسان، لأن تأريخه في كل أرض مملوء بالنكبات والجوائح التي تعلمه كيف يحسن، ودينه في كل صبغة مملوء بالعظات والآداب السامية التي تعلمه ما هو أسمى وأشرف من الإحسان، وهو كيف يتأدب في إحسانه. فإذا كان كل ذلك وكان ذلك كله صحيحاً لا ريب فيه كما هو الواقع، فما الذي يمنعنا - نحن الشرقيين - من أن نكون محسنين بالمعنى الحق، حتى تظهر ثمرة الإحسان، فتشبع بطون خاوية، وتكسى أجساد عارية، وتصلح عقول بالية، وتشفى جراح في جسم الإنسانية دامية، ويكون كل شيء عاملاً في تكوين الأمة تكويناً صحيحاً، حتى هذا الذي يقال إنه أصل الرذائل كلها ويقال فيه ما قيل فيها جميعاً، ويقال له الفقر!
ليس يذهب بإحساننا ضعفه وقلته، فالقليل لو أجتمع لصار كثيراً؛ ولا يخفى ثمرته أنه هو نفسه غير ظاهر، فإن كل شيء يؤتى نتائجه الطبيعية ظهر أو خفي. وما الإحسان إلا ضرب من ضروب الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن الذي جعل الصحيح فاسداً، والموجود ضائعاً، والمثمر منقطعاً، وجعل كل أمر في أيدينا يكاد يكون عبثاً من العبث، إنما هو شيء واحد، وهو جهلنا كيفية الإحسان
لا ريب أننا اليوم أمة، وأننا نتبع الأصول الاجتماعية في كل أمورنا العامة، وأننا نرى