بأعيننا تسخير الطبيعة، ونستخدمها لأنفسنا، ولا ريب أننا مجتمع من المجتمعات المتمدنة، ولنا وصف طويل في علم الشعوب، وأن بلادنا ذات لون واضح في خريطة الأرض، ولكن مع هذا كله لا نزال في طريقة إحساننا كأننا في منقطع العالم، أو في رءوس الجبال، وكأننا لا نزال في معركة الاجتماع الطبيعي التي يكون الإنسان فيها جيشاً، والحيوان جيشاً يقابله
نحِسن إحساناً طبيعياً صرفاً، من الفرد للفرد، كيف اتفق وحيث اتفق. نعطى الدرهم بكَسَل لمن يأخذه، لا لكي يعمل به، ولكن ليكون ثمرة من ثمار كسله. . . في العصور الطبيعية تخرج الأرض أثمارها بعد أن تكون العناصر كلها قد اجتمعت على إنضاجها وعملت فيها أعمالاً كثيرة، فيأتي الإنسان ليمد يده، ولا يعمل عملاً أكثر من أن يمدها. وعندنا تخرج أيدي المحسنين دراهمها، فيأتي بعض الناس ليمد يده، ولا يعمل كذلك عملاً أكثر من أن يمدها. نحسن مثل هذا الإحسان الذي يذهب به وقته، فلا ننتفع به في إصلاح الأمة، ولا ينتفع به الفقير نفسه، لأنه في الأكثر يُفسدهُ ولا يُصلحه. ولا يوجد اليوم في أيدي الناس درهم من دراهم الخرافات، يصلح أن يكون رأس مال، ولا في خبزهم رغيف من رغفان المعجزات التي تشبع الجماعات الكثيرة. والفقير متى أكل بالدرهم الذي يُحسَن به إليه، فقد شبع من جوع، وتهَّيأ لجوع جديد، فيذهب الإحسان والدرهم كما هما، ويبقى الفقير والجوع كما هما أيضاً!
من أجل ذلك وما يتصل به، فشلنا وذهبت ريحنا، وركدنا والناس طائرون. ومن أجل ذلك أراني أحب هذه الجمعية المباركة، وأكرم رجالها والقائمين بها، وأمدحهم وأعتدُّهم من العظماء
فالجمعية صندوق أموال، وهي نفسها صدر يخفق في قلب الإنسانية. والجمعية سبب من أمتن أسباب الإحسان، وهي نفسها طريقة أفضل من طرق التربية الاجتماعية، وأكبر فضلها أنها من هذه الأمة كالظل في الرمضاء، والرقعة المخصبة في الجدب العريض، وأنها مجتمع صحيح في أمة متبدَّدة يمزَّقها كل شيء، حتى الأديان التي تعلم أن الناس أخوة من أب واحد. وحتى السياسة التي تجعل أفراد كل أمة أعضاء من أسرة واحدة. وحتى الأدب الذي يضرب مثل الإنسان للإنسان، بمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى