مجتمع صحيح من هذه الأمة العجيبة التي بهرتها الأمم بمعجزات الوطنية والاتحاد والإنسانية والعلم والأدب والاختراع، وأعجزت هي الأمم كلها في قاعدة حسابية غريبة، وهي أنها أفراد ولكن ليس لها مجموع في (الحساب)!
ليست العظمة بظهور المرء كما يظهر الممثل أمام المتفرجين في خلقة مزوّرة من رأسه إلى قدمه، ولا في هذه الأخيلة الذهبية التي تملأ رءوس الأغنياء كأنها أرواح الذهب، ولا في نحو ذلك من السخافات (العظيمة) التي ملأت الشرق كله. ولكن العظمة أحد شيئين: علم منتج، أو عمل مثمر. العظمة خلق إنساني يوجده العلم أو يوجد هو العمل الإنساني العظيم. فإن لم يكن علم صحيح، ولا عمل صحيح، فاجمع بين الماء والنار قبل أن تجمع بين النفس والعظمة. وقد أرى الرجل من عظمائنا وهو من تعاظمه لغناه أو لمنصبه أو لجاهه أو لحسبه، كأن رأسه صندوق من صناديق الموسيقى، وكأن كل حركاته وكلماته إنما توقع توقيعاً منتظماً مع (النفخة) التي تخرج من هذا الصندوق، ومع ذلك فلا أكرمه ولا أجد له في نفسي من المنزلة، ولا أحفل بتلك العناصر الأربعة التي أنشأت عظمة من الغنى أو المنصب والجاه والحسب، إلا كما يكون في نفسي لبعض قطع من الخشب والحديد والمعدن والنحاس، وهي العناصر التي تصنع منها الأدوات الموسيقية
العظيم ذات مبنية على مبدأ، وما دام كذلك فهو عظيم في خلقه وفي عمله، ولا يسلب هذه العظمة منه إلا الموت. على أن التاريخ يقوى على الموت فيستلبها منه، ويحفظها لصاحبها العظيم، ثم ينفض عليها صبغة الخلود، فإذا هي حياة ثانية لاسم من الأسماء الخالدة التي لا تموت إلا حين يموت الموت! وإذا كانت الذات مبنية على مبدأ، فيستحيل أن يسقط الرجل العظيم وذاته قائمة
وعلى هذه الجهة أتفاءل بمستقبل جمعية الاتحاد المباركة لأنها مظهر من مظاهر الأخلاق الفاضلة في نفوس القائمين بها؛ فهي بناء من الأبنية الراسخة، ولكن انظر إلى أحجارها الخالدة، فإن كل حجر إنما هو المعنى الإنساني الذي تنطوي عليه نفس الرجل العظيم
عندنا رجال كثيرون، ولكن ليس عندنا مبادئ ثابتة. فالذي ينقصنا إنما هو المبدأ. والرجل إذا لم يكن على مبدأ، فهو من يوم يولد إلى يوم يموت، إنما يتسكع في طريق الأقدار ليقطع مسافة ما بين مهده ولحده. وقد تكون هذه المسافة طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل حال،