جلس بسام على صخرة مشرفة على طريق القرية الضيق، يلهو بقذف الحصى، ويرنو إلى الأضواء الراعشة، وهي تخفق في السهل البعيد. وكان الناس قد آووا إلى دورهم، منذ طفلت الشمس للمغيب. فتلك كانت عادتهم في المصيف المتواري في ثنايا الجبال. وكانت الطرقات قفراً، والليل هادئاً، والقمر يقطع السماء بدلال واطمئنان، تحف به النجوم باسمات، يتنادين ويتغامزن، كأنهن حسناوات يتبعنه في لجة البحر. . .
وطرق سمعه صوت ناعم رخيم نبهه، فأرهف أذنيه، وحدق بعينيه، ثم قفز من الصخرة، يتلفت يمنة ويسرة. فلمح في طريق تخرج من سفح الجبل، فتترامى على صدره، وتغيب في قمته، شبحين ينحدران وسط الظلام في مشيتهما ميسان وفتور. وقد استند رأس برأس برفق، واشتبك ذراع بذراع بعنف، وغرقا في تمتمات وغماغم، شغلتهما عما يحيط بهما، من طبيعة وسنا، وقمر ضاحك، ونسيم رطب ونجوم ساطعات.
وتقدم الشبحان يميسان. فخفق قلب بسام، وظن أنه حبيب يغازل فتاته في هذا الليل الوسنان. فخطر على قلبه أن يعبث بهما فيقلد عواء الكلاب ليرعبهما، ولقد هم. . . لولا أن حدق ثم حملق، ثم بلع ريقه، وخفق قلبه، وذهل. . . لقد لمح، تحت ضوء القمر، حسناؤه زهرة الياسمين، التي فتنته ذات يوم، في قاعة الدرس، أنه يوم مسحور. . . أبصر به جمال الحياة يشع في عينين زرقاوين كالبحر، وشعر أشقر مجدل كسنابل القمح، وفم رقيق كأنه الجرح يقطر الدم، وينفح العطر. . . فراح هيمان بها، لا يصحو من حبه ولا يفيق.
وفار الدم في عروقه، ورمى بحصوات كانت في يده، وساءل نفسه عما تفعله الآن، وقد انتشر الليل؟ ترى أهي تحب فتى غيره؟ وكيف تحب، وهي له وحده؟. وهم أن يهجم على هذا الذي معها فيهشم عظامه، ويسحقه. فاقترب مغيظا. . . ولكنه ما لبث أن تبين إن الذي معها فتاة، وليس فتى. فشعر بتيار بارد يجري في عروقه، وتصبب العرق من جبينه. . . وبهت. . .
وضحك، بعد برهة، من نفسه كالمجنون. . وعاد إلى الوراء خطوات، فاختفى وراء صخرة ضخمة. . وحدثته نفسه أن ينتهز الفرصة فيكلمها. فهذه فرصة لن يجد مثلها. الجو صفو،