نرى لعهدنا في الأمم التي فشى الإلحاد فيها، فليس من بعد إلا أن يتحول الفقر عن صورته البيضاء في سكب الدمع إلى صورته الحمراء في سفك الدم، وكان سؤالا فيعود اغتصابا، وكان الأسفل فيرجع الأعلى، وكان يفرضه الحق فإذا هو الحق نفسه. والله لكأن المسكين في هذه المدينة هو الجزء اللئيم الذي طرده الغني من نفسه وتبرأ منه وأمات ما بينه وبينه، فإذا هما اعترضا في مذهب من مذاهب الحياة، نفر الغني كأنما يرى قبره يدنو منه، وأطبق عليه البائس بمعاني النقمة واللعنة يقول له ما أنا إلا لؤمك أنت.
إن من الشجر شجرة تنبت في الفقر تعتصر ماؤها بين رمل وحجر، وتمتص غذاؤها من لؤم الجدب، فإذا حان أن يزهر عودها شوك فلا يكون في عقده ونبره إلا شوك، فإذا ازدرعوها في الخصب وخضلها الماء، وساغت لها الطبيعة، ثم حان أن يزهر عودها ملسه كرم الأرض؛ فإذا في موضع كل شوكة زهرة كأنها كلمة الحمد. وكذلك مثل الفقير بين الملحد والمؤمن
ترى أيخرج الإنسان في هذه المدنية من عصر العقل إلى عصر القلب، أم هو منحدر من عصر عقله إلى عصر معدته؟
وكان على هذه الأرض أغنياء مؤمنون فيهم من كرم الحس شبه الفقر، ومساكين مؤمنون لهم من كرم الصبر شبه الغنى، فهل تنقلب المدنية من الغنى المحض والفقر المحض إلى مادة تخلق اللحم الحي وأخرى لا تخلق له إلا الظفر الحي. . .؟
وكان اختراع الإنسان في المادة الجامدة، أفتراه يجيء يوم على الناس يكون أعظم اختراع فيه للإنسان الأخير أن يعيد إلى الأرض إنسانها الأول الكريم؟