وبعد فذاك لون خيالي من التفكير؛ بيد أنه يستر وراءه نزعة فلسفية ناشئة تغالب الخرافة؛ وتسعى إلى إيجاد حل معقول لمشكلة الخير والشر في العالم: هل هما من مصدر واحد؟ لا - فذلك ما لا يقبله عقل زرا دشت الحكيم؛ إذ كيف يتسنى أن يصدر النقيضان عن مبدأ واحد!؟ لا بد إذن أن مظاهر الشرور من أمراض وجرائم وموت وقبح وشقاء ترجع إلى علة غير العلة التي ترجع إليها مظاهر الخير من عافية وإحسان وفضيلة وحياة وجمال وسعادة. ولكن العقل قاصر كما قلنا، فهو يفرض وجود العلة ويعجز عن معرفة كنهها، حينئذ يلوذ بالخيال يلتمس عنده ما لم يجده في رحاب العقل، فيخرج بصورة رائعة ترضي نزوعه إلى معرفة إلى حين: تلك هي صورة الصراع المحتدم بين حزبين على رأس أحدهما (أورموزدا) وعلى رأس الآخر (أهر يمان).
ولكن هذه النتيجة لا تشبع العقل، ولا تشفى غليله أللخير أم للشر؟ وهل يعقد النصر لحزب الحق أم لحزب الباطل؟ لو أجاب زرا دشت على هذا السؤال مستنداً إلى الاستدلال البريء من الهوى والرغبة، ودعم إجابته بالدليل المنطقي والبرهان، لقلنا إنه أنتج فلسفة وفكر تفكيراً فلسفياً، ولكنه يحكم طوره المبكر في عالم التفكير، يستجيب لنزعة التفاؤل المتمكنة من نفسه، فيغلب الخير، لا لضرورة منطقية، ولا ليقين عقلي، ولكن لإيمان قلبي، ورغبة نفسية، يحتمان عليه أن ينتصر الخير ويعم الجمال وتسود السعادة في نهاية الأمر. وهكذا نلمس لدى الفرس ما لمسناه في تفكير المصريين. دوافع نفسية تحرك الخيال فيصوغ الآراء صياغة حسية، ويصور العالم صورة خيالية ذاتية لا صورة واقعية موضوعية.
وتقرب من هذه المحاولة الفارسية محاولة هندية يمثلها البراهمة وهم الكهنة الحفاظ على الديانة الفادية التي ترجع إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي توزع قوى الطبيعة