ويجب أن نضيف إلى تلك الأدلة على أن حب أبي العتاهية لعتبة جارية المهدي لم يكن حبا صادقا، دليلا آخر هو ذلك الشكل الذي ابتدأ به حبه لها، وحب صاحبه لخالصة صاحبتها، فإن وقوف كل واحد منهما في الطريق لتمر عليه أي امرأة كانت، فيتفق أن تمر عليهما هاتان الجاريتان، فيقول أحدهما قد عشقت عتبة، ويقول الآخر قد عشقت خالصة، لا يدل إلا على أنهما كانا يريدان حبا كيفما اتفق، حبا يتخذانه وسيلة للظهور والمران على الشعر، لا حبا صادقا يملك عليهما حياتيهما وشعريهما، كما ملك ذلك على الشعراء العشاق قبلهما.
ولم يكتف أبو العتاهية باتخاذ عتبة وسيلة له إلى الاتصال بالمهدي، بل اتصل أيضاً بيزيد بن منصور خال المهدي، وكان بارا بأبي العتاهية، كثيرا فضله عليه، وكان أبو العتاهية منه في منعة وحصن حصين، مع كثرة ما يدفعه إليه، ويمنعه منه من المكاره، ومن أجله كان أبو العتاهية يتعصب لليمانية أخوال المهدي، ويمدحهم فيما يمدحه به من شعره، ومن ذلك قوله:
سُقيت الغيثَ عليك نورا ... فنعم محلَّةُ الملك الهمام
لقد نشر الإله عليك نوراً ... وخفَّك بالملائكة الكرام
سأشكر نعمة المهديَّ حتى ... تدور عليَّ دائرة الْحِمَام
له بيتان، بيتٌ تُبَّعِيُّ ... وبيت حَلَّ بالبلد الحرام
وقد اتصلت مدائحه بالمهدي فقربه منه، وعظم مقامه في دولته، ونال من جوائزه ما لم ينله غيره، وكان الأمر يصل بينهما أحيانا إلى التبسط في أوقات اللهو إلى حد تسقط في الكلفة، وينسى الفارق بين المهدي وبينه، ومن ذلك أنه خرج معه يوما إلى الصيد في بعض من حاشيته، فوقعوا منه على شيء كثير، وتفرقوا في طلبه، وأخذ المهدي في طريق غير طريقهم وكان معه أبو العتاهية، فعرض لهم واد فسيح، وتغيمت السماء وبدأت تمطر، فتحيرا في أمرهما، وأشرفا على الوادي، فإذا فيه ملاح يعبر الناس، فلجأ إليه وسألاه عن الطريق، فجعل يضعف رأيهما، ويعجزهما في بذلهما أنفسهما في ذلك الغيم للصيد؛ ثم ادخلهما كوخا له، وكاد المهدي يموت بردا، فقال له الملاح: أغطيك بجبتي هذه الصوف؟