قال: نعم، فغطاه بها فتماسك قليلا ونام، فافتقده غلمانه، وتبعوا أثره حتى أتوا إليه، فلما رأى الملاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب، وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه، وألقوا عليه الخز والوشى، فلما انتبه قال لأبي العتاهية: ويحك ما فعل الملاح فقد والله وجب حقه علينا، فقال: هرب والله خوفا من قبح ما خاطبنا به، فقال إنا لله، والله لقد أردت أن أغنيه، وبأي شيء خاطبنا؟ نحن والله مستحقون لأقبح مما خاطبنا به، بحياتي عليك إلا ما هجوتني، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك، فقال: والله لتفعلن فإني ضعيف الرأي مغرم بالصيد. فقال:
يا لابس الوشى على ثوبه ... ما أقبح الأشيب في الراح
فقال له زدني بحياتي فقال:
لو شئت أيضاً جُلتَ في خامة ... وفي وشاحين وأوضاح
فقال له: ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا أستأهل، زدني شيئا آخر. فقال: أخاف أن تغضب، فقال لا والله، فقال:
كم من عظيم القدر في نفسه ... قد نام في جُبةِ ملاَّح
وهذه حادثة أخرى له مع المهدي تدلنا على أن اتصاله به لم يكن اتصال الشاعر المستجدي الخانع، بل اتصال الشاعر الذي يعرف لنفسه قدرها، فإذا رأى شيئا أمامه من ممدوحه لا يرضى عنه، نسى فيه ماله وجوائزه، ولم يذهب فيه معه على ما يرضى هواه، بل يذهب فيه على ما يرضى نفسه هو، وإن كان يتلطف في ذلك بقدر ما تسمح به ظروف عصره في مخاطبة الملوك، وتهدئة ثائرتهم عند غضبهم.
دخل على المهدي وزيره أبو عبد الله، وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، وأبو العتاهية حاضر مجلسه، فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه، ثم أمر به فجر برجله وحبس، ثم أطرق المهدي طويلا فلما سكن أنشده أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كبرت عليه
تهين المكرمين لها بصُغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية: أحسنت، فقام أبو العتاهية ثم قال: والله يا أمير المؤمنين