ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا، ولا أصون لها، ولا أشح عليها، من هذا الذي جر برجله الساعة؛ ولقد دخلت إلى أمي المؤمنين، ودخل هو، وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضى من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضى عنه، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية.
فإذا قيل لنا كيف صار الفتى بائع الجرار إلى هذه المنزلة من علو النفس، بحيث يسمو ذلك السمو على وزير المهدي، إذا بدا للناظر غريبا أن ينقلب هذا الشاعر الماجن ذلك الانقلاب الذي يتنافى مع ماضيه كل المنافاة، فإن هذا لا يجعلنا نتعجل درس هذا الشاعر العظيم، ولا بد أن ننتظر ذلك الإرهاص إلى غايته، ونمضي في درسه مرحلة مرحلة.
ومن مدائحه في المهدي تلك القصيدة التي مدحه بها أمام بشار وأشجع السلمي وغيرهما من الشعراء، وقد إذن لهم المهدي فجلسوا وسكت أهل المجلس، فسمع بشار حسا، فقال لأشجع: من هذا؟ فقال أبو العتاهية، فقال: لا جزي الله خيرا من جمعنا معه، ثم أمره المهدي فأنشد:
ألا ما لسيدتي ما لها ... أدَلاَّ فأحمل أدلالها
وإلا ففيمَ تجنَّت وما ... جنْيتُ سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما ... م قد أسكن الحب سربالها
مشت بين حور قصار الخطى ... تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها ... وأتعب باللوم عذالها
فقال بشار لأشجع: ويحك يا أخا سليم! رأيت أحر من هذا؟ ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع! حتى بلغ قوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلو ... ب لما قبل الله أعمالها
فقال بشار: أنظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي؟
والناظر في هذه القصيدة يرى أبا العتاهية إلى هذا العهد يبتدئ مدائحه بالنسيب على