وعاش مصطفى كمال مع أمه في سالونيك بعد وفاة زوجها الذي كان يعضه وينفر منه، وهناك حاول أن ينشئ مع زملائه من صغار الضباط فرعاً لجمعية الوطن، فأخفق لأنهم كانوا في ريبة من أمره، فلم يؤيده ولم يعارضوه، كأنما كانوا يريدون أن يقفوا على حقيقته ويتبينوا أمره قبل أن يتوصلوا به ويتعاونوا معه في أمثال هذه المغامرات. وأخيراً أرسل إليه أحدهم أن بسالونيك جمعية ثورية كبيرة تدعى جمعية الاتحاد والترقي، يجتمع أعضاؤها في منازل بعض اليهود من رعايا إيطاليا، فيستطيعون أن يدبروا الخطط، ويتشاوروا في أمرهم بمأمن من بطش الحكومة، ومنجاة من عيون الخليفة، وبعد أن اختبرت الجمعية إخلاص بطلنا، وأنست منه نفساً ثائرة وقلباً قلقاً، دعته إلى الانضمام إليها فتم لها ما تريد. وانخرط مصطفى في سلك أعضائها، فألفى نفسه في جو لا يلائمه ولا يتفق وميوله، إذ رأى من حوله أشخاصاً يتحدثون في أمور لا تعنيه ولا تتصل بتركيا التي يحبها ويفني في سبيلها، فما يهمه من متاعب اليهود وما يلاقونه من اضطهاد في روسيا، فهو تركي قبل كل شيء، وهو معتز بتركيته تياه بها، ولا غرض له سوى إنقاذ تركيا من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية، وفضلا عن ذلك فهو ما زال في الجمعية (أخاً) صغيراً، عليه أن يتلقى الأوامر بالطاعة والإذعان، وعليه أن ينفذها بأمانة ونشاط. وهذا ما لا يرضى بطلنا الذي خلق ليأمر ويسود لا ليأتمر ويخضع، فبرم بالجمعية وسخط عليها، وأخذ ينقدها نقداً حاداً قارصاً غير متلطف فيه ولا متهاون قائلاً: إنه يسمع مناقشات بيزنطية لا يعززها عمل حاسم، وهو يريد خطة محكمة دقيقة، ينفذها بكل ما وسعه من جهد، وكل ما في نفسه من حرارة الأيمان والوطنية، ولم يكن يرعى للرؤساء حرمة أو مقاماً، فمن هم أولئك الذين يستأثرون بالنفوذ ويستبدون بالأمر دونه؟ أأنور ذلك المجازف المتهور، أم جمال ذلك المظلم العقل المضطرب الذهن، أم داود ذلك اليهودي الدنيء الذي