أنقلب مسلماً، أم نيازي ذلك الألباني فاقد التوازن، أم طلعت ذلك الموظف المصلحي والدب البطيء، فهكذا كان يراهم بطلنا، ويرى نفسه فوقهم أجمعين، وهكذا نرى العظماء شديدي الأنانية عظام الثقة بأنفسهم، وهي صفة لابد منها لمن يتطلعون إلى مسابح الأفلاك. أما من ضعفت ثقته بنفسه، وتنحني عن نفسه لغيره، فليقنع أذن بمدارج الأسماك. وكان يخاطبهم مخاطبة الأستاذ لتلميذه، وحدث ذات مرة أن كانوا يتحدثون عن جمال ويمتدحون وطنيته فقاطعهم مصطفى كمال متهكماً بهم، وأخذ يلقي عليهم درساً عن العظمة الحقيقية. فلما التقى بجمال في اليوم التالي صارحه برأيه فيه قائلاً له أنه طالب شهرة، وألقي عليه ما ألقي على زملائه بالأمس. وقد كان زملائه الضباط يبغضونه لاعتداده بنفسه واستصغاره لشأنهم وسخرهم منهم، كما كان اليهود لا يثقون به، فلم يرتقي إلى مراكز الماسونية العليا وظل بعيداً عن مركز القيادة أو مبعداً عنه
ولم يكن في البيت أيسر نفساً ولا ألين جانباً، ولم يكن يسمح لأحد غير أمه أن ينتقده، وكان مع ذلك يأبى عليها التدخل في عمله أو المساس بكبريائه. وقد اجتمع في يوم من الأيام ببعض زملائه بالمنزل، فأخذ الخدم يتسمعون حديثهم من وراء الأبواب وأخبروا أمه، فعارضت فكرته، فحاول أن يقنعها بصوابها، فركبت رأسها وأصرت على رأيها، وما كان الاثنان ليتفقا، فقد كانت هي امرأة صادقة الإيمان وثيقة الإخلاص لقديمها، بينما أبنها لم يكن يؤمن بشيء أو يجل شيئاً على الإطلاق؛ وأخيراً سايرت الأم الرؤوم ولدها العزيز في طريقه برغم اعتقادها في خطئه، خشية أن يهجر المنزل فيشق عليها فراقه، ولكنها ظلت تحذره سوء المنقلب وظلام المصير، قائلة: أن من الحمق التآمر بالخليفة والدين
وقد سئم بطلنا الحياة المنزلية بما يثقلها من ثرثرة الأقارب، وتجسس النساء، وفضول الخدم، إذ لم يكن أبغض إليه من الحد من حريته، فهم يريد أن يكون سيد نفسه مهما كلفه ذلك من مشقة وثمن، فهجر المنزل، ولكن ظل حبل الود متصلاً بينه وبين أمه، فكان يزورها ويصغي إليها. وكان ينفق بياض النهار مكباً على عمله، كما كان ينفق معظم لياليه في المقاهي حيث يجتمع بزملائه أحياناً أو يذهبون إلى مكان خفي بعيد، حيث يشربون ويدخنون ويدبرون الخطط للثورة المقبلة. على أن بطلنا لم يكن ليرضى أن يكون جندياً خاملاً مغموراً، بل يريد أن يكون قائداً له شرف النصر وفخار الغلبة والقهر، ولم يكن يحب