للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

احذَري أَيَتُها العَرَب

للأستاذ محمود محمد شاكر

اليوم، لقدْ أحدَّ الجزَّار شفرته وشمّر عن ساعديه، وأقبل على الذبيحة يردُ أن ينحرَها نحراً فذاً، وهي راضية عنه له، مستسلمة بين يديه، مقرّةٌ له بأن ذَبْحها هو نجَاتها، وأن شفرته هي كما قال الراجزُ في دَلْوه: (قاتِلَتني وملؤُها حياتي)!!

وبالأمس - في سنة ١٨٨٢ - وطئت إنجلترا أرضَ مصر لتدعم ما تزعزع من أركان عَرْشِها، كما زعمت وزعم لَها من لا يتورّع ولا يتحرّج، ومنذ ذلك اليومِ والسكّين ماضٍ في تمزيق أشلاء ذلك البَدَن أنحدَّر بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة، والذي كان يسمّى العلم والعربي والعلم الإسلاميّ. وما مضى إلاّ قليلٌ حتى طارَتْ أشلاء هذا البدن بدداً متفرقة مفَصَّلَة، ذهبتْ مصر وحدها، وذهب الشامُ وَحْدَه، وذهب العراق وحده، وذهبت مراكش وحدها، وذهبت طرابلُس وحدها، وذهبت تركيا وحدها، وقطعت عُنُق الخلافة، وقضى الأمرُ.

واليوم يوشِكُ أن يكون ما كان بالأمسِ ولكن على أسلوب آخر: أن تُحْشَد هذه المِزَقُ المقطعة حَشْداً جديداً لتساق إى يوم الحشر، لتساق مخَدَّرة بالأكاذيب وبالغفلة وبالجهل وبالخيانة مَرْةً أخرى إلى الهُوّةِ المضطرمة التي لا تُبْقى على حيٍّ، إلى الحرب الثالثة.

هذه إنجلترا تريدُ مرّة أُخرَى أن تعود بحِيَلها ورجالها وأعوانها وصنائعها، وبمداورتها وسياستها، لتضرب الضربة الأولى كما ضربتْها في سنة ١٨٨٢، وتخضع أعناق المصريين شاهدَهم وغائبَهم لأحكام معاهدةٍ عجيبة ظاهرها فيه الرحمة (أي الدفاع عن مصر والشرق) وباطنُها من قِبَله العذَاب (أي نكال الحرب الثالثة). ولن تفرغ منها - إذ قدّر الله أن تفرغَ، ولا قدّرَ - حتى تجملها وتدور بها على أمم العرب واحدةً بعد واحدةٍ، لتنال منها صَكاً مكتوباً، بالأسلوب الإنجليزي ولا ريب، يجعلها جميعاً في قبضة الأسد البريطاني ليوم الحَشرِ، فعندئذ تسوقهم جميعاً كعادتها إلى المجزرة الكبرى مُقدَّمين في الصفّ الأول ليكونوا قُرْباناً لجبّار الحروبِ، ووقاءً للدمِ الإنجليزي أن يُهَراق منه في حروب الإمبراطورية البريطانية إلاّ ما لا بُدَّ منه تَحِلةَ القسم وردَّ العين الحاسدة، كما حدث في الحرب الأولى وفي الحرب الثانية، حيث لم يُسْفَك من الدم الإنجليزي إلا الأقل،

<<  <  ج:
ص:  >  >>