وجملَت العبءَ كله تلك الأنعام البشرية التي جُمِعَت من الأسود والأبيض، من بقاع أفريقية وأرجاءِ الهند ومن نَواحِي هذه الإمبراطورية التي لا تقبّل الشمسُ مواطئ أقدمها حيثما دارت في مَدَرها.
فاحذري أيتها العرب. . . احذري.
إن السياسة البريطانية هي السياسة البريطانية، أي هي الجشَعُ المحتالُ المخادعُ الذي يستَلُّ منك أعزَّ ما تحرصُ علَيه بالشدّ والإرخاء والترغيب والترهيب والظهور والاختفاء، حتى تنهارَ النفوسُ وتسكُنَ من جَهْدِ أو إعياء. انظري ماذا فعلت، أو ماذا كانت تريد أن تفعلَ بمصر. شهرٌ بعد شَهْرٍ بعد شَهْرٍ والدُّنيا كلُّها من حولنا تعج عجيجاً بالمفاوضة والمعاهدة وبالأخذ والردّ، وبالموافقة والمعارضة، وباللين والشدة، وبالسكينة والصخب، حتى دارت الرؤوس على أعناقها، وتحّيرت العيون في حَمَاليقها، وتشتَّت منارُ الهُدَى وخيفَ على صاحب الرأْي أن يزول عن رأْيه، وما زالت إنجلترا تمدُّ للطامعين مدّاً وهُمْ يسعَوْن وراءَ ألفاظها الخلاَّبة حتى أعيتهم، وكادت لهم كيداً شديداً حتى أطغَتْهم فطغوا، وأرادوا أن يضربوا علة عقول هذه الأمة وألسنتِها بالقهر والعنف والاستبدادِ حتى تدَعَ العقلَ واللسانَ، وتقبل منهم ما أرادوا هم أن يفرضوه علينا فرضاً.
ولكن يأبى الله أن يكونَ لهذا الكيد له قرارٌ، فهذه الفئة التي ظنَّت أنها سوف تخدعُ إنجلترا عن نيتها الملفَّقة في الألفاظ الكاذبة، قد جاءها البرهان الساطعُ القاطعُ، بأن هذه الدولة (المفاوِضة) تضع الألفاظَ على قدرِ ما تريدُ، لا على ما يريدُ مفوضها أن يفهم. فإذا خيَّلت له نفسُه أنه فاهمٌ من النصِّ ليقول لها ويبين عن فحوى ألفاظها أرسلت عليه شيئاً يردّه إلى صوابه. فبالأمس كان المفاوض المصريّ يزعم لمصر أنه جاءها (بوحدة وادي النيل)، وأن النص المعلق بالسودانِ كان خيراً كلّه، وأنّ وأنّ. . . فما أصبح الصباحُ حتى طلع عليه شيءٌ من أشياءِ بريطانيا يقول له: جاوزتَ حَدك فاستبْقِ، وأن بريطانيا لا ترضى هذا التفسير المصنوع من جانب واحد، وان السودان وديعة في اليد البريطانية، والودائع مستردَّة، والخيانة فيها تفريطٌ لا يليق بالشرف البريطاني! فنحنُ في السودان أمناءُ عليه، ولن ندعَه لِمصر العادية الباغية تفعل فيه ما تشاء كأنه جزءٌ منها!! بل لا بدَّ لنا من أن نبقى هناك حُرَّاساً حتى يبلغ السودان رشده بعد السنين التي يقتضيها بلوغه الرُّشْد! وعندئذ