لم يكن الصليبيون يستطيعون أن يحدوا وقتاً أنسب من هذا الوقت الذي اختاروه للانقضاض فيه على بلاد الشام؛ فقد كان النظام الإقطاعي يومئذ يمزق وحدة هذه البلاد، ويوهن من قواها؛ فلم يستطع أمراء الإقطاعيات المتفرقون أن يصدوا هذا الجيش اللجب الذي بعثت به أوربا لالتهام تلك القطعة من الأرض، فسقطت فلسطين وجزء من سوريا بين أيديهم، وأسسوا بها إمارات صليبية هي إمارة الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس؛ وبرغم ما بذله أمراء البلاد مجتمعين حيناً، ومتفرقين حيناً، من الجهود في حرب الصليبين لم يستطيعوا استخلاص البلاد من أيديهم، أو صد عدوانهم؛ ورأينا الفرنج وقد امتدت حدودهم من ماردين وأنطاكيا في الشمال إلى مدينة العريش لدى حدود مصر. وأخذت جيوشهم تضخم وقسوتهم على من بجوارهم من العرب تشتد، وتهبهم ما يطيقون نهبه يزيد في كل يوم، وأصبحوا يرتكبون كل عظيمة لا يهابون قصاصاً ولا عقوبة، واحتملت البلاد المجاورة لهم كل ما لا يستطاع حمله من الذي والإرهاق، ففرضت عليها الضرائب الثقيلة لا تميز في لك بين مسلم ومسيحي.
تلك كانت حال البلاد عندما ولى عماد الدين زنكي إمارة الموصل. وقد لوحظ في اختياره لهذه الإمارة ما عرف عنه من الكياسة وحسن الإدارة، والشجاعة في حرب الصليبين؛ فرأى الأمير الجديد أنه لا يستطيع النهوض بهذا العبء، وشمل الأمة ممزق، ووحدتها مبعثرة، فوضع نصب عينيه أن يوحد البلاد تحت قيادته، ويجمع أمرها في يديه، حتى يحمل على عدوه حملة رجل واحد، ويستخلص من بين براثنه الوطن المغتصب؛ فضم إلى إمارته معظم بلاد الجزيرة، ثم عبر الفرات واستولى على حلب وكثير من بلاد الشام، وحاول الاستيلاء على دمشق حتى تتم له وحدة البلاد ولكنه لم يوفق.
ورأى عماد الدين أن إمارته - وقد اتسعت رقعتها - في حاجة ماسة إلى الإصلاح الشامل؛ فنصب نفسه أباً لشعبه وسهر على إصلاح شئونه المالية، حتى يستند إلى دعامة قوية من المال فيما صمم عليه، وكانت البلاد قد خربت قبله، لطول غارات الصليبين عليها، وصار