كثير منها غير مزروع، وانقطعت التجارة لتعرضها لنهب الفرنج، فبذل زنكي جهوداً جباوة في إحياء الزراعة، وإعادة الرخاء إلى إمارته؛ فرجع الفلاحون إلى أرضهم، وبنيت المدن المخربة، وعاد إلى التجارة الحياة، كما أخذ العابثين بالنظام، وقطاع الطرق بالشدة والقسوة، وحكم إمارته بعين يقظي تنقل إليه عيونه كل ما يجري فيها وفيما حوله من البلاد، حتى لا يؤخذ على غرة. ونهض بالبلاد نهضة ثقافية، فكان هو ووزيره جمال الدين الجواد من حماة رجال العلم والثقافة. وأحاط نفسه بنخبة ممتازة من الرجال أغدق عليهم خيره، ولم يكن من صفاته التلون والتغير على أصحابه، فكانوا لذلك يخلصون له في النصح، ويبذلون نفوسهم في سبيله، وبهذا كله استطاع أن يجمع قوى هذه الإمارة ويوجهها إلى الصليبيين يحطم بها ما استطاع من قوتهم
كان الفرنج ينظرون إلى هذه الإمارة الناشئة بعين الريبة، فما هو إلا أن صمم عماد الدين على لقائهم عند حصن الأثارب سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وهو حصن قريب من حلب، اشتد ضرره على أهلها، فلا يكاد يمر يوم من غير غارة عليهم، أو نهب لأموالهم. حتى جمع الفرنج فارسهم وراجلهم يريدون أن يسددوا إلى تلك الإمارة ضربة قاضية، لا تقوم لها بعدها قائمة. ولعل الخوف من هذا الحشد الذي جمعوه قد داخل نفس بعض أصحاب العماد؛ فأشاروا عليه بالعودة، ولكن الحماسة المتدفقة في صدره ملأت نفوس جنده همة وإقداماً، فأقبلوا على أعدائهم في إيمان وبسالة يريدون أن يظفروا بالشهادة في سبيل الله. ولقد صبر الفريقان وأبلوا في المعركة أشد البلاء، ثم ظفر المسلمون بأعدائهم وانتصروا عليهم، وانهزم الفرنج هزيمة منكرة. قتل منهم عدد ضخم، ووقع الكثير من فرسانهم في الأسر وأذاقهم المسلمون من بأسهم ما أدخل في نفوس عدوهم الرهب والوهن، فلم يستطع الفرنج لقاء عماد الدين عندما مضى مجداُ بجنده إلى قلعة حارم بالقرب من أنطاكيا، وبذلوا له نصف دخل المدينة على أن يعقد بينه وبينهم هدنة، فأجابهم إلى ذلك، حتى يعطي جيشه الناشئ فرصة للراحة والاستعداد، وعاد بعد أن رأى الفرنج أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصارى همهم أن يحفظوا ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك جميع البلاد.
رأى الفرنج هذا الخطر فأرادوا تحطيمه، ومضى ملك بيت المقدس إلى أعمال حلب