رد جلسائي التحية إلى رجل ألقاها عليهم وهو يدخل القهوة في زي أنيق ورؤاء حسن؛ ثم أتبعوه النظر حتى جلس في جماعة من ذوي الهيئات قابلوه بنشاط وصافحوه بقوة؛ ثم عادوا بأبصارهم وأفكارهم إلى تشقيق الحديث، فقال أحدهم لجاره: أشهدت الحفلة التي أقامها بعد عودته من الحج في الأسبوع الماضي لمستقبليه ومهنئيه؟ فأجابه جاره: أوه! نعم شهدتها. ولقد بلغت هذا العام من ضخامة المادة وفخامة المظهر مبلغاً صغر سوابقها في أعين الناس على كثرة ما كان يجمع لها وينفق فيها!
فقال جاري: إن العجيب من أمر هذا الرجل أنه يحرص كل الحرص على أداء الحج في كل سنة، وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ولا يصوم رمضان، ولا يكاد يتشهد! فكيف يقوم دينه على ركن واحد والإسلام كما نعلم إنما يقوم على أركانه الخمسة، وكلما تهدم منها ركن تقوض من بنيته بناء؟ فرد عليه شيخ مستنير الفكر بأنه اغتر على ما يظهر بقول المتزيدين من جهلة الشيوخ: إن الحج وحده يمحص الذنوب ويمحو الخطايا حتى ليذهب الرجل إلى مكة وهو موقر النفس بالحرائر، مثقل الضمير بالكبائر، فيعود منها وهو نقي الصحيفة كيوم ولدته أمه! وإن كثيراً من مطففي الكيل وقطاع الطرق ورواد الفحش يبسطون لأنفسهم العنان في المنكر اتكالاً على حجة يغتسلون بها فيعودون بزعمهم أبراراً كالأطفال وأطهاراً كالملائكة! ولكن الأعجب في أمر هذا الحاج أنه تاجر وليس له متجر نراه، وغنى وليس له مورد نعرفه. يقضي عامه من الحجة إلى الحجة وهو فارغ البال من هموم العيش، مستريح البدن من مؤونة العمل، يتنقل بالنهار في المدن وبين الناس، ويتقلب بالليل في المواخير وبين الندامى، حتى إذا اقترب ميقات الحج، وهفت النفوس المؤمنة إلى مشرق الدين ومهبط الوحي، فطم نفسه عن رضاع الكأس، وأصم إذنه عن نداء المنكر، وأخذ يعد الجواز والجهاز لأداء هذه الفريضة. وقد لاحظ مخالطوه أن موسم الفيضان في رزقه يبدأ بعد رجوعه من الحجاز، فيبسط أنامله العشر بأوراق النقد، يولم بها الولائم، ويقدم منها الهدايا، ويدرك عليها اللذائذ؛ والمعروف أن الزكاة هي التي تبارك المال وتنميه لا الحج، وأن العمل هو الذي يجلب الرزق ويبقيه لا التبطر؛ ولكن هذا الرجل لغز لا يحل، وسر لا يدرك! فابتسم أحد الحضور وقال: وماذا عندك لي إذا كشفت المخبوء وشرحت الغامض؟ فقال له الشيخ: ثمن القهوة وأزيدك طلباً آخر. فقال الرجل إن حال