للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في بيت المقدس]

للأستاذ علي الطنطاوي

كانت (مارييت) تدور في البيت ما تستطيع أن تستقر من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها، تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فتساقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذعوراً ويبكي، فتمزج دمعة الحب بدمعة الطفولة. . . وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به. . . وكانت (مارييت) فتاة باسلة، ثابتة الجنان، لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة (حطين) لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك لفارس فيهم مأملاً في نصر، فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟ وكان زوج (مارييت) فارس الحلبة، وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز وكل أمة في أوربة، يملأن جوانب القدس، فلم ير فيهن من هي أفتن فتنة، وأبهى جمالاً، من (مارييت) فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن. . . ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه لوطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبق أبداً فارس النصرانية المعلم وبطلها فكان كلما سمع نأمة طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين. . .

وفتح الباب، فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدر أهو البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما. . . ويحدثها حديث النصر: لقد رد يسوع الأعداء، وفت في أعضادهم فانطلقوا هاربين، قبل أن نباشر حرباً، أو نشرع في القتال، لقد استقر أيتها الحبيبة ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، وياليتك أبصرتهم يا مارييت، وقد ذهب الفزع بألبابهم لما رأوا أسوار المدينة، تطل من فوقها أبطال النصرانية، وفرسان الصليب، فهدوا خيامهم، وولوا الأدبار لا يلوون على شيء لا يريدون إلا النجاة. . . لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في (حطين). لقد فروا كالنعاج الشاردة. . . فيا ليت أبطال القدس كانوا في (حطين)، ليروهم يومئذ ما القتال!

<<  <  ج:
ص:  >  >>