هي أسرة واحدة تعيش تحت سقف واحد، ولكن عصور أفرادها متباعدة، وثقافاتهم متعددة متفاوتة، والحضارات التي يمثلونها لا تنفك تتصادم وتحترب في دارهم. وقد عرفت بعضهم في لبنان وبقيتهم في مصر، وكنت أتمشى يوماً قبل الغروب في طريق (ضهور الشوير)، والشوير (ضيعة) كما يسمونها، أو قرية في واد يشرف عليه الجبل، فهذا هو (الضهور) أو (الظهور)، فملت إلى مكان هناك يسمونه (قهوة الحاج ياس) وهي قائمة بين بساتين فاكهة وزهر، فلمحت في طريقي من ظننتها واحدة ممن عرفتهن هناك، فحثثت الخطى إليها، فإذا هي فتاة لا عهد لي بها، ولي بنظري قِصر، ولكني كنت مطفلاً، وكانت الشمس قد اصفرت وضعف ضوؤها، وكان الشجر يحجب وجهها عني - أعني الفتاة لا الشمس - فلي العذر إذا أخطأت. وعلى أنه خطأ لم يسؤ وقعه في نفسي. بهذا أعترف. وكانت جالسة ترسم فأغراني هذا بها، فدنوت منها على أطراف أصابعي، ثم وقفت أتأملها - من وراء ظهرها - وهي مقبلة على اللوح. فلما طال ذلك عليّ، وهي لا تلتفت وراءها، تنحنحت، فأدارت وجهها بسرعة وقالت:(أوه!) ولم يكن في وجهها لا ابتسام ولا دهشة، كأنما كان من المألوف عندها أن تسمع الناس يتنحنحون وراءها وهي ترسم!.
فقلت وقد أحسست أن الفتيات عسراً:
(هل أزعجتك؟)
فقالت وهي ماضية في رسمها وغير ناظرة إليّ:
(أزعجتني؟؟ هل سمعتك تقول إنك أزعجتني؟)
وكانت لهجتها واشية باحتقار يحول الأدب دون ظهوره على وجهها، أو لعل الأصح أن أقول في اللهجة تهكماً خفيفاً حملته على محمل الاحتقار، فحقدتها عليها - في سري - غير أني لم أظهر ذلك لها واكتفيت بأن أقول:
(هذا ما كنت أخشى - فالحمد لله!)
فمضت في تخطيطها على اللوح وقالت:(إذا كنت تريد أن تتكلم فاجلس). فكانت هذه صدمة ثانية. فتلجلجت قليلاً وقلت (أ. . . أ. . . أجلس؟) فقالت وهي مكبة على اللوح (آه.